قضايا وآراء

أوروبا وحصاد الريح

| عبد المؤمن الحسن

يبدو لأي شخص يُتابع الشأن الأوروبي، أن القارة العجوز فقدت منذ مدة طويلة جداً قرارها المستقل، وأصبحت تابعة اقتصادياً وسياسياً وحتى فكرياً وثقافياً للولايات المتحدة الأميركية، تحديداً وبشكل أكثر دقة منذ تدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، بسبب مباشر بعد الهجوم الذي شنه طيارو الكاميكازي اليابانيون على الأسطول الأميركي في ميناء بيرل هاربر، وبسبب حقيقي هو طلب الدول الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا المساعدة منها عقب احتلال هتلر لمعظم أراضي القارة الأوروبية وصولاً إلى شواطئ بحر البلطيق والشمال والمان وهي أقرب نقطة إلى الشواطئ الإنكليزية، وخوف الولايات المتحدة من سيطرة الفوهرر على العالم.

منذ ذلك الوقت لم تخرج أوروبا من تحت العباءة الأميركية، وخاصة في فترة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، بل كانت عواصمها مسارح لمعارك مختلفة لهذه الحرب التي استمرت حتى تفكك الاتحاد السوفييتي، ولن يفوتنا أن بعض القادة الأوروبيين حاولوا جاهدين على مدى سنوات أن يفتكوا حريتهم واستقلالهم السياسي والاقتصادي من القطب الأميركي، أو أن يعيدوا صناعة مجدٍ مفتقد على غرار ما قامت به مارغريت تاتشر البريطانية أو جاك شيراك الفرنسي أو أنجيلا ميركل الألمانية، لكن ما أبرمه الأميركي من معاهدات وتحالفات قيدت الأوروبيين وحرمتهم هذه الحرية، حتى مع تشكيلهم حلفهم الأوروبي الخالص إثر معاهدة ماستريخت عام 1991 وصكهم عملتهم الموحدة التي بقيت ملتصقة بالدولار التصاق توءم سيامي، وبقيت معاهدات الدفاع المشترك والأحلاف العسكرية وعلى رأسها حلف شمال الأطلسي «ناتو» مبرراً حقيقياً وموضوعياً للتحالف المتكافئ في ظاهر الأمور، وللتبعية والخضوع في باطنها.

وحدة القرار أو فردانيته الأميركية، والتبعية الأوروبية تمثلت بوضوح في العديد من الارتكابات والتجاوزات الأميركية للقانون الدولي، والتي جاء الحضور الأوروبي فيها بمثابة شهادة الزور، ولم يكن قصف الـ«ناتو» ليوغوسلافيا عام 1999 أولها ولا احتلال العراق عام 2003 آخرها، وتتالت المحطات التي ثبتّت تلك التبعية والتواطؤ الخسيس لخدمة أهداف السيد الأميركي، لكن من دون أن تنعكس سلباً على التحالفات السياسية والأحزاب الحاكمة في أوروبا، التي بقيت مستقرة وغير مهددة بالسقوط أو الاستبدال بحكم الوضع الاقتصادي المتماسك إلى حد كبير في منطقة اليورو.

نقطة التحول في هذه المعادلة كانت في الموقف الأميركي والأوروبي عقب العملية العسكرية الخاصة التي أعلنت عنها روسيا في 24 شباط 2022 من أجل حماية المواطنين الروس في إقليم الدونباس من الاعتداءات الأوكرانية المتكررة منذ عام 2014، حيث اصطفت الدول الأوروبية مجدداً وعلى رأسها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، خلف واشنطن لدعم نظام فلاديمير زيلينسكي، وإمداده بالمال والسلاح وتأمين الغطاء السياسي لارتكاباته في المنظمات الدولية، وتبرير اعتداءاته المتكررة على بقية أراضي الدولة الروسية في الأقاليم المحاذية للحدود الروسية الأوكرانية المشتركة.

بشكل محموم بدأت الجوقة الأوروبية تعمل وفق إشارات عصا المايسترو الأميركي المحكوم من الديمقراطيّين لتفرض على روسيا 13 حزمة كاملة من العقوبات الاقتصادية بغية تركيعها وتجويعها عبر بوابة الاقتصاد، الأكثر إيلاماً من حيث تأثيرها، ففرضتها على الشعب الروسي بهدف ضرب علاقته مع القيادة الروسية، وعلى أمل أن تلك العقوبات ستفتت الجسد الاقتصادي والمالي الروسي خلال فترة قصيرة، وستجلب الروس راكعين يستجدون العفو والمغفرة ممن يمتلكون قرار المال والأعمال والتحويلات البنكية والمصرفية في العالم، كما يمتلكون قرار طبع المليارات من الدولارات في كل وقت من دون حساب.

لكن لسبب ما، لسوء في التقدير، أو لعدم دراسة العدو بالشكل الكافي، لم يخطر في بال القادة الأوروبيين أن هذه العقوبات ستنعكس على شعوبهم بشكل أقسى، ما أثرت في روسيا والشعب الروسي، وأن القارة العجوز التي تعاني مشاكل في استجرار الطاقة لسد احتياجات مصانعها وتدفئة مواطنيها، لم يكن ينقصها قرار بهذه السذاجة يحرمها من الغاز والبترول الذي كانت تشتريه من الجار الروسي بأسعار تفضيلية، لتستبدلها بالغاز والبترول الأميركيين وبأسعار أغلى بخمسة أضعاف من سعر الغاز الروسي، مع إضافة ما جرته السياسات الأوروبية الارتجالية حيال أزمة اللاجئين وكيفية التعامل المسيّس معها، انعكس كل ذلك على المواطن الأوروبي أولاً، الذي بدأ يدفع من جيبه الخاص كل تكاليف الفواتير الأوروبية والأميركية، التي كانت تمول القرارات الغريبة المتخبطة تجاه ملف الهجرة ودعم أوكرانيا مادياً وتسليحها عسكرياً وتأمين متطلبات جيشها الحالم بالانتصار على الجيش الروسي، والمبرر الأساس الذي سيق لإقناع الناخب الأوروبي كان كذبة الفزاعة الروسية «الروسوفوبيا» التي انطلت على المواطن الأوروبي ردحاً من الزمن.

في الوقت ذاته تخطى الروسي تلك العقوبات واستثمرها ليعيد هيكلة اقتصاده وصناعاته وحتى علاقاته السياسية والاقتصادية، ويبتدع حلولاً لكل واحدة من المخاطر التي واجهته، ففتح أسواقاً جديدةً لمنتجاته بالاتجاه شرقاً نحو الصين وبقية آسيا، وجنوباً باتجاه إفريقيا والبلاد العربية، وأوجد بدائل لكل الصناعات والمنتجات الأميركية والأوروبية التي تم حرمان روسيا والشعب الروسي منها، وبدأ يخلق حلولاً لمشاكل التحويلات والارتباط والتبعية للدولار الأميركي ومنظمات النقد الدولي التابعة لوزارة الخزانة الأميركية، عبر إيجاد تحالفاتٍ سياسية واقتصادية بديلة كمجموعة بريكس وشانغهاي وأوراسيا، والاستغناء عن الدولار كعملةٍ وحيدةٍ صالحةٍ لدفع مستحقات الصفقات واستبدال العملات المحلية بين الدول به، أضف إلى ذلك قيام روسيا بتسخير تلك التحالفات السياسية والاقتصادية الجديدة للسير نحو بناء عالم متعدد الأقطاب كبديل عن العالم المبني على سياسة القطب الأميركي الواحد التي أثبتت فشلها.

وفي سيناريو يشبه كشف الحساب أو الفاتورة الختامية، جاءت الانتخابات البرلمانية الأوروبية لعام 2024 لتحمل للأحزاب الليبرالية الحاكمة في أوروبا مفاجأة من العيار الثقيل، أحزاب أقصى اليمين المتطرف تتصدر نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، واليمين المتطرف وأقصى اليمين هي تيارات سياسية في أوروبا تتبنى نزعة متطرفة معادية للمهاجرين عامة وللمسلمين واليهود والأجانب، تتمسك بقوة وتطرف بالقيم الوطنية والهوية السياسية والثقافية واللغوية لكل دولة أوروبية، وتتسم بميلها الشديد للمحافظة الدينية المسيحية، ومن أشهر أحزابها في أوروبا «الجبهة الوطنية» في فرنسا، و«حزب الوسط الديمقراطي» في سويسرا، و«حركة بيغيدا» الألمانية، وتشترك أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية كلها بمرتكزات إيديولوجية تميزها كتيار سياسي واحد ومتجانس في كل دولة على حدة، أهمها النزعة الوطنية المفرطة والرافضة لكل أشكال الاندماج الإقليمي بحجة حماية السيادة الوطنية.

إذاً، ما الذي يعنيه فوز هذه الأحزاب المتطرفة على الأحزاب الوسطية والليبرالية الحاكمة في فرنسا بزعامة إيمانويل ماكرون وفي ألمانيا بزعامة أولاف شولتس وفي النمسا وإيطاليا وهولندا؟

يعني ببساطة، أن الشارع الأوروبي بدأ استفاقته ولو متأخراً نحو تغيير سياسات برلماناته التي استقرت على مدى السنوات الأخيرة على دعم واشنطن في خياراتها ولو على حساب الأمن الأوروبي والمصالح الاقتصادية الأوروبية والمواطن الأوروبي، كما أنه بدأ يعي إخفاق سياسييه وحكامه وسوء إدارتهم لأهم الملفات التي اضطلعوا بها، وبدأ أيضاً من حيث يدري أو لا يدري يتمرد على التبعية الأميركية العمياء، ليحاول أن يخطّ عبر يمينيّيه أو متطرفيه إذا جاز التعبير، سياسة خاصة، تعلي مصلحة المواطن الأوروبي، لكنها قائمة على أسسٍ من العنصرية والإلغاء لفئات أخرى من المجتمع الأوروبي أو الوافدين إلى هذا المجتمع.

في النهاية لن يكون من مصلحة أحد أن يكون التطرف حاكماً في أي مكان أو زمان، لكن ما أنتجته الانتخابات البرلمانية الأوروبية وما ستنتجه بعد فترة الانتخابات الأميركية وفق استطلاعات الرأي، تكشف أن الشعوب الأوروبية خصوصاً والغربية عموماً صفعت الطبقة السياسية التي حكمت أوروبا والغرب، وقادتها خلال السنوات الأخيرة إلى شفا حرب عالمية ثالثة، وهي تقول لها وللسياسيين الذين خطوا هذه السياسات وزرعوها: أيها الفاشلون، توقفوا عن زراعة الريح فقد حصدنا ما يكفي من العواصف.

صحفي سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن