ملامح اضطراب في القارة العجوز
| عبد المنعم علي عيسى
لا شيء آخر يمكن له أن يفوق في الأهمية ذلك الأثر الناجم عن حدث من نوع «الانتخابات البرلمانية الأوروبية» سوى الانتخابات الأميركية التي تفوق تلك الأولى لاعتبارات لها علاقة بمعادلات القوة، ثم بحيوية المجتمع التي تمنح صانعي القرار في هذا الأخير هامشاً واسعاً بدرجة تتيح لهم إعادة رسم تلك المعادلات، ومن ثم وضعها في قوالب أخرى، كلما تكشف ضعف في حد من حدودها أو تبدى ترهل في جانب ما منها، والشاهد هو أن القارة التي شكلت مسرحاً للتحولات العالمية على امتداد ما يزيد على خمسة قرون ما تزال تمثل، حتى اليوم، مركزاً محورياً في التوازنات الدولية، وما يجري على أراضيها شديد الأهمية لجهة التنبؤ باتجاهات «الرياح» التي سوف تهب على العالم برمته من أقصاه إلى أقصاه.
على الرغم من أن أغلب استطلاعات الرأي التي سبقت انتخابات «البرلمان الأوروبي»، التي انطلقت يوم الخميس الماضي وامتدت حتى يوم الأحد الذي تلاه، كانت قد تنبأت بصعود وازن لأحزاب اليمين الأوروبي عموماً، حتى إن بعضها كان قد قال إن هذه الأخيرة ستكون على موعد مع فوز مدوٍ يكرس ثقلها الذي ستصبح من خلاله القوة الكبرى داخل البرلمان الأوروبي الذي يمثل الهيئة التشريعية الوحيدة المنتخبة شعبياً في القارة القديمة، وأعضاؤها هم الذين يقرون القوانين ويسنون التشريعات التي من شأنها رسم ملامح القارة على المديين المتوسط والبعيد، أي بالمعنيين الاجتماعي والهوياتي، أما بالمعنى الراهن السياسي، فلا دور يذكر لذلك البرلمان إلا من خلال «المفوضية الأوروبية» التي تقوم بتنسيق السياسات بين برلمانات وحكومات الدول الأعضاء البالغ عددها 27 دولة، نقول رغم ذلك: إن النتائج الأولية لتلك الانتخابات لم تأت على مقاس التنبؤات سابقة الذكر، فالمشهد الذي كرسته تلك النتائج وفق ما تكشف منها حتى الآن، يمكن اختصاره بالقول إن أحزاب «الوسط» ما تزال تمسك بالدفة إلا أنه ثمة من هو قادر على التأثير في اليد التي تديرها.
تقول النتائج الأولية إن تكتل «الائتلاف الكبير»، الذي يضم ثلاثة أحزاب هي حزب «الشعب الأوروبي» وتجمع «الاشتراكيين والديمقراطيين» وكتلة «تجديد أوروبا»، وجميعها كتل وأحزاب وسطية، قد فاز بنحو 398 مقعداً من أصل 720 مقعداً، وهذا يعني أن الأخير ظل على حاله كما كان عليه في الدورة السابقة التي شغل فيها دور القوة الأوزن داخل البرلمان، لكن الصورة لا تكتمل هكذا، فما جرى على صعيد «ما تحت» تلك القوة الأوزن يبرز ظاهرة مهمة يمكن تلخيصها بصعود أحزاب اليمين المتطرف في قلب القارة الأوروبية المتمثل بمحور فرنسا- ألمانيا الذي شكل تاريخياً عصب استقرار القارة، وكذا في منطقة «الشرايين» المتمثلة بهولندا وإيطاليا وبلجيكا، وصعود أحزاب اليسار والوسط في شمال القارة المتمثل بفنلندا والسويد والدانمارك والنرويج، مع استثناء وحيد لهذه القاعدة الأخيرة شكلته النمسا التي سجلت نتائجها صعود حزب «الحرية» اليميني المتطرف، الذي يشار إليه على أنه مشوب بصبغة «نازية»، وربما كان ذلك الصعود مرتبطاً لاعتبارات خاصة تاريخية بصعود اليمين في ألمانيا.
في المعايرة يمكن القول: إن توازن القوى الذي رسمته نتائج الانتخابات الأولية سوف يؤدي إلى حال من الاستقطاب قد تزداد حدتها تبعاً للمناخات السائدة داخل القارة، وكذا في محيط هذه الأخيرة العالمي، وحالة الاستقطاب آنفة الذكر، سوف تعوق السياسات الرامية إلى مواجهة التحديات التي تجد القارة الأوروبية نفسها اليوم في مواجهتها، بدءاً من تغير المناخ ومروراً بالتدابير الكفيلة بالحد من الهجرة إلى داخل أراضي الاتحاد الأوروبي، ثم وصولاً للخيارات الإستراتيجية من نوع العلاقة مع روسيا، ثم النظرة إلى كل من بكين وواشنطن في ضوء المنافسة الصناعية القائمة بين كل من هاتين الأخيرتين، كل على حدة، وبين دول الاتحاد الأوروبي التي ترى في النتائج التي ستفضي إليها تلك المنافسة أمراً محدداً، وبدرجة كبيرة لمصير القارة: استقرارها، أمنها الجمعي، ومسار نهضتها المستقبلية.
حالة الاستقطاب الناجم عن الانزياحات الأوروبية الحاصلة نحو اليمين، ستكون لها دلالة خاصة إذا ما قيض للمرشح الجمهوري دونالد ترامب أن يعاود أدراجه من جديد ليحل رئيساً لـ«البيت الأبيض» مطلع العام المقبل إذا فاز في الانتخابات المقبلة المقررة في تشرين الثاني من هذا العام، عندها سيكون طرفا اليمين على ضفتي الأطلسي، كما الصوت والصدى أحدهما «قريناً» للآخر ومعبراً عنه بدرجة تكاد تصل حد التماهي، وذاك بالتأكيد ستكون له تداعياته المباشرة على مناخات عالمية تبدو آخذة في الانحدار نحو نزعات صدامية يرى فيها دعاتها سبيلاً وحيداً لحل النزاعات، وأيضاً سبيلاً وحيداً لتكريس الهيمنة التي يقول هؤلاء بـ«مشروعيتها» قياساً للقفزات التي حققوها على سلم الحضارة من جهة، وقياساً أيضاً لقدراتهم التي تمكنهم من القيام بفعل التكريس الآنف الذكر، عندها قد تكون المناخات المتولدة عن مثل حالة افتراضية كهذه حتى الآن شبيهة بتلك التي سادت العالم بدءاً من عام 1933 فصاعداً.
كاتب سوري