قضايا وآراء

البعث والبرلمان والخروج من الديستوبيا

| د. أسامة دنورة

عندما كتبت قبل بضعة أسابيع، في صحيفة «الوطن» الغراء، مقالاً بعنوان «البعث كطليعة أخلاقية في مواجهة انحسار المعيار القيمي الاجتماعي»، وصلتني بعض التعليقات والانطباعات التي وصف بعضها ما جاء في المقال بأنه نوع من السعي إلى «اليوتوبيا» (أو المدينة الفاضلة)، وأن ذلك يأتي في زمن هو أبعد ما يكون عن مجرد التفكير بها، وفقاً لهذه الآراء.

غير أن اشتداد الأزمات في حياة الشعوب قد يكون بشيراً بقرب انحسارها، ففكرة «العود الأبدي» التي تحدث عنها فلاسفة مثل «فريديريك نيتشة» و«ميرتشيا الياده»، تغري المرء بالاعتقاد بإمكانية انطباقها أو انتقالها من «الميثولوجي» و«الطقسي» إلى «السوسيوبوليتيكي».

فالأمم والدول والمجتمعات قد تنهض مجدداً إلى حالة سامية من المبدئية الأخلاقية عندما يستفحل التراجع القيمي، ومن الممكن أن تعيد المجتمعات هذا المنوال في دورات متكررة، أو لنقل إن الإيمان بمثل هذه «الحتمية التكرارية» يمنح الأمل والتفاؤل بنهوض قادم لا محالة، نهوض يقترب أكثر فأكثر كلما حلك الظلام.

ولكن، وكما هو الحال في المنطق الديني (بأن اللـه لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)، فكذلك الأمر في المنطق الواقعي العقلاني الجدلي؛ حيث يقتضي توقع النتائج الجديدة وجود مقدمات جديدة أيضاً.

وبالعودة إلى الواقع السياسي السوري، فإن توقع نتائج أو مخرجات جديدة فيما يتعلق بتكريس معالم دولة القانون وتقويم الأداء الحكومي، يقتضي بدوره مدخلات جديدة تقوم بالدرجة الأولى على المحاسبة، فالمنطق السليم يقول إن ضعف الرقابة والمحاسبة، أو غيابها عن متابعة أطر ومؤسسات السلطة التنفيذية، سيفضي بلا ريب إلى توسع دائرة الفساد والترهل، وسيورثُ ضعفاً أو غياباً في التخطيط الإستراتيجي الذي يعتبر ضرورياً وحيوياً لمصلحة الشعب ومستقبل الدولة.

والمحاسبة المقصودة هنا، ووفق منطق العقد الاجتماعي، ليست المحاسبة القانونية فحسب، بل هي محاسبة سياسية وقانونية على حد سواء، فليست المحاسبة القانونية أهم من المحاسبة السياسية، ولا الثانية أهم من الأولى، بل يمكن القول بثقة إن كل واحدة منهما تمثل ضمانة لفاعلية الأخرى.

إن المحاسبة السياسية لا تعني فقط مساءلة الحكومة تحت قبة البرلمان، ولا حتى القدرة على حجب الثقة عن بعض أعضائها أو عنها كلها، بل هي تعني بالدرجة الأولى أن الأحزاب التي تشكل ائتلافاً حاكماً، وتحكم، يمكن لها أن تدفع ثمن ضعف أدائها عبر صناديق الاقتراع، وذلك عبر وصول أحزاب أخرى إلى أغلبية تتيح لها تشكيل الحكومة.

بكلمة أخرى، يصعب جداً أن تتحقق المحاسبة السياسية الفعلية من دون تعددية سياسية حقيقية وتداول حقيقي للسلطة.

وغني عن الذكر هنا أن الثوابت الوطنية والدستورية والسيادية يجب أن تكون خارج إطار التجاذبات السياسية الحزبية والائتلافية، فالحفاظ على تلك الثوابت هو من لوازم السلامة الوطنية، وهو من المهام المنوطة برئيس الجمهورية الذي يعتبر حارساً وضامناً وطنياً لها، حيث كلفه الدستور السوري بالسهر على «احترام الدستور والسير المنتظم للسلطات العامة وحماية الوحدة الوطنية وبقاء الدولة».

وبالعودة إلى ما يتعلق بمسألة التعددية السياسية وتداول السلطة، يمكن أن يكون الجواب ببساطة هو أنه لا توجد موانع دستورية أو قانونية تحول دون وجود حزب، أو ائتلاف من الأحزاب، ينتزع الصدارة من غيره في الانتخابات، وأن الأمر منوط حصراً بصناديق الاقتراع.. بالطبع هذا الجواب رسمي وكلاسيكي ونظري إلى حد بعيد، أما على أرض الواقع المستمر منذ عقود طويلة، فهل يمكن مثلاً أن نرى ائتلاف أحزاب من خارج أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية يحقق التقدم على قائمتها وينتزع منها أحقية تشكيل الحكومة؟ بل هل يمكن أن نرى خرقاً لقائمة الجبهة ولو على مستوى مقعد أو مقعدين؟ فكما هو معلوم لدى الجميع، أن مواد الدستور تمنح حصة ثابتة (كوتا) للعمال والفلاحين، ولكنها لا تمنح حصة ثابتة لأي حزب أو أي ائتلاف من الأحزاب.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو إلى متى تستمر هذه الآلية السياسية المتقادمة شكلاً ومضموناً في أن تمثل المشهد الأوحد في الحياة السياسية السورية؟

أما على الصعيد البعثي الصرف، وفيما يتعلق بالشأن البرلماني، فقد كانت هناك تساؤلات عدة حول آلية التصويت الإلكتروني، وحول سرية الاقتراع في الاستئناس الحزبي، الأمر الذي يتطلب توضيحاً وربما تصويباً لما يمكن أن يكون قد شاب عملية الاستئناس.

وفي جانب آخر ذي صلة، فإن اتكاء السلطة السياسية على مصطلح أو مفهوم «الحوار»، وهو الأمر الذي يتكرر بين الفينة والأخرى، لا يبدو وحده كافياً لتحقيق المشاركة السياسية، فالحوار ممارسة ضرورية وراقية بلا شك، وهو يسهم في بلورة فهم مشترك، وربما إرادة سياسية توافقية في مفاصل معينة ومحدودة، ولكنه لا يعبر عن توسيع هامش المساهمة في صناعة القرار، فمن حيث النتيجة: الحوار ليس القرار.

إن إرساء معالم دولة القانون والعدالة الاجتماعية ينبغي أن يمر عبر معبر إجباري هو الديمقراطية التعددية، وعلى الرغم من أن الظرف الوطني العام ليس هو الأفضل للسير قدماً في إجراء تغيرات بنيوية، إلا أنه من الواجب علينا أن نتذكر أن تطاول زمن تطبيق الاستثناء يحوله تدريجياً إلى قاعدة، وبذلك يكون «العود الأبدي» سالف الذكر أقرب إلى «أسطورة سيزيف» وعبثية «البير كامو»، فيما لو انتقلت تلك الأخيرة إلى ميدان السياسة.

منذ أسابيع قليلة فقط، قال الرئيس الأسد إن «كل بنية موجودة في المجتمع لا تتحرك من مكانها نحو الأمام تصبح متخلفة، وكلما ازدادت الظروف قساوةً يصبح التطوير أكثر حاجةً والتأجيل ليس الخيار الصحيح»، وهذا الكلام للرئيس الأسد يشير بما لا ريب فيه إلى ضرورة مغادرة حالة المراوحة «السيزيفية» والتقدم إلى الأمام.

وفي عود على بدء، فإن ما كنت أهدف إليه في مقالي الأول سابق الذكر، وفي مقالي هذا، ليس على الإطلاق السعي الخيالي إلى بلوغ «اليوتوبيا»، بل هو وبكل بساطة تعبير عن مسعى بات ضرورياً لمغادرة التيه، والخروج من «الديستوبيا».

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن