الغرب المتوحش لعنة آن لها أن تزول
| عبد المؤمن الحسن
لا يخفى على أحد، متابعاً كان أم غير متابع، حجم المعارك السياسية والدبلوماسية التي تدور خلف كواليس المواجهاتِ العسكريةِ الحالية في العالم، والتموضع السياسي لكل دولةٍ استناداً إلى الاصطفافات التي ظهرت في أكبرِ معركتين تدوران الآن على سطحِ الأرض.
ففي المعركةِ الأولى يقاتلُ الفلسطينيون منذ السابع من تشرين الأول 2023 بحركاتِهم المقاومة وبلحمِهم العاري وسلاحِهم المحلي أو المهربِ رغم سنوات الحصار والتضييق، وبدعم وإسنادٍ قتالي من حزب اللـه في لبنان وأنصارِ اللـه في اليمن والفصائلِ العراقية المسلحة، يقاتلونَ جيشَ الاحتلال الإسرائيلي المدججَ بأحدث ترسانةٍ عسكرية في العالم والمدعومَ أيضاً من السيد الأميركي والناتو والدول التي تدور في فلكِهما بحاملاتِ طائراتهما ومخازنِ أسلحتهما المفتوحة على مصاريعها.
في المعركة الثانية يقاتل الجيش الروسي منذ شباط 2022 القوات الأوكرانية المعززة بدعم الناتو وخبراته وأسلحته وأقماره الصناعية ومرتزقةِ دوله وتبنّي السيدِ الأميركي المطلقِ للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي وارتكاباتِه، رغمَ انتهاءِ ولايته الرئاسية منذ أشهر وإلغائه الانتخابات الرئاسية بحجة حالةِ الحرب والطوارئ، مع دعم إضافي تمثلَ بكلِّ القراراتِ والعقوباتِ الأميركية والأوروبية التي حرصت على فرملةِ روسيا والاقتصاد الروسي وإفقاره وقطع سبل تعافيه.
معركتان تقسمان العالمَ ودولَه إلى محورين:
محور أول دأبَ منذ ظهوره على الاحتلال والاضطهاد واستغلالِ الدول الفقيرة أو دولِ الجنوب كما يحلو لهُم تسميتها، لمصلحة رفاهية وصعودِ وحلّ أزمات دول الشمال أو ما صار يُعرف بالفترة الأخيرة بالمليار الذهبي، وهو ببساطةٍ عددٌ من الدولِ الكبرى التي بدأت مستعمِرة ومنتدِبة ثم سلمت مقاليدَ قرارِها للولايات المتحدة الأميركية منذ بدايةِ الحرب الباردة بشكلٍ خجول، وبشكلٍ واضحٍ مع تفككِ الاتحاد السوفييتي وصعودِ واشنطن لتتبوأ قمةَ هرم السلطةِ في العالم، وتديرَ كلَّ ملفاته وقضاياهُ بوصفها قطباً وحيداً أوحد، يضربُ حيث يشاء ويحتلُّ ما يشاء ويعاقبُ ويحاصر من يشاء، ومكوناتُ هذا المحور وبشكل فجٍّ ووقح، تقف في المعركتينِ السابقتين إلى جانب المعتدي سواءُ كان الاحتلال الإسرائيلي أم نظامَ كييف، ساترةً عوراتِ جرائمِهما، بالشعاراتِ الرنانة التي تتحدثُ عن الحريةِ والديمقراطية وحقِّ الشعوبِ في تقرير مصائرها.
ومحورٌ ثان عانى ما عاناه منذ سنواتٍ طويلة من ارتكاباتِ وتعدياتِ المحور الأول وسياساتِه الإمبريالية، فخبرت شعوبُه كلَّ أنواع الاحتلال والانتداب، وقاست دولُه وشعوبُها من العقوبات والاتفاقياتِ الظالمةِ التي جيّرت كلَّ ثرواتهِ ومُقدراته ومواردِهِ الطبيعية لخدمة أميركا وأوروبا وحتى الاحتلال الإسرائيلي بالنيابة، كما تم ولفترة طويلة من الزمن تأجيرُ تلك الدول إلى حكامٍ يعملونَ موظفينَ في خدمةِ البيت الأبيض الأميركي، ويقدمونَ عبر تلك السنوات فروضَ الطاعة وجزيةَ الولاء لوليِّ نعمتِهم، والأمثلةُ على ذلكَ عديدةٌ وواضحة إن كانَ في إفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية.
بالعودة إلى المعركتين اللتين تشغلانِ الكوكب الآن، وفي الكواليس، وخلفَ سُحب الدخان وقصفِ القنابل والانفجارات، تترافقُ المعارك العسكرية التي تجري مع معاركَ سياسيةٍ ودبلوماسية واستخباراتية، لا تقل صعوبة ولا أهمية، يغلبُ عليها بناءُ تحالفاتٍ وتفكيكُ أخرى، إحياءُ معاهداتٍ وتطويرُ أخرى، ونقلُ للتعاون والشراكاتِ من مستوى التبادلِ التجاري والسياحي وعلاقات الصداقة والمجاملات الدبلوماسيةِ، إلى مستوى الشراكات الإستراتيجيةِ بما يتوافقُ مع مستوى التحدياتِ التي تتعرضُ لها دول العالم من الدولِ صاحبةِ نظرية المليار الذهبي.
وفي هذا الإطار جاءت زيارةُ الرئيسِ الروسي فلاديمير بوتين إلى كلٍّ من كوريا الشمالية وفيتنام، وإطلاقُه لتصريحاتٍ تتعلقُ بإعادة تشكيلِ هيكليةِ الأمن الأوراسي عبرَ الحوارِ المعمقِ مع الشركاء وحتى مع الأعداء من دول الناتو, وأهمية هذه المبادرةِ تتمثل أولاً في تاريخ الدولتين في خوضِ حروبٍ شرسةٍ وطويلة مع الولايات المتحدة الأميركية بدأت في خمسينياتِ القرن الماضي، ففيتنام هي الدولةُ التي عانت من النابالم والوحشيةِ وجرائمِ الحربِ الأميركية بين عامي 1954 و1973 لكنها رغم ذلك دحرت الجيشَ الأميركيَّ بكل جبروتِه وبقيت كابوساً نغّصَ ولاياتِ أربعةِ رؤساءَ أميركيين منذ دوايت أيزنهاور مروراً بجون كنيدي وليندون جونسون وصولاً إلى ريتشارد نيكسون.
أما كوريا الشمالية فهي بالنسبةِ للولايات المتحدة الأميركية المشاغبُ الذي لم تستطع ضبطَه منذ بدايةِ الحرب الكورية عام 1950 مع محاولاتِها الدؤوب لتحدي الغطرسةِ والعقوبات الهائلة الأميركية، وقدرتها الدائمة على إزعاجها بتجاربها الصاروخية المتكررة وقدراتها النووية.
لا شكَّ أن الزمان كانَ مدروساً كما هو المكان، من أجل توجيهِ رسالةٍ عاليةِ النبرة تصل إلى درجة تحذيرِ المحور الأميركي ومن لفَّ لفّه، بأن ما درجت عليه العادةُ، منذ عام 1991 تاريخِ انتهاءِ الحرب الباردة، من سيطرةِ واشنطن على العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، والتحكم في مصائرِ وقراراتِ دولِهِ وشعوبِه، يجب أن يتغير، ولا بد من تقديم خياراتٍ جديدة لدول العالم التي ذاقت ظلماً وعدواناً كلَّ صنوفِ الحروب والاحتلالاتِ والتدخلات والعقوباتِ الاقتصادية من الولايات المتحدة الأميركية، وبتواطؤ مباشر أو غير مباشر من المنظماتِ الدوليةِ وعلى رأسها الأمم المتحدة، مع خطفِ قراراتِ مجلسِ الأمن الدولي وتعطيلها بالفيتو الأميركي أو البريطاني أو الفرنسي.
في الإطار وفي الوقت ذاته، لكن على الجانبِ الآخر من العالم، وقريباً من المياهِ الإقليمية الأميركية، ترسلُ روسيا الاتحادية غواصةً نووية وقطعاً بحريةً حربية روسية لتجري مناوراتٍ في المحيط الهادئ ثم لترسوَ على شواطئ كوبا، العدوِّ التقليدي القابعِ في الحديقة الخلفيةِ للولاياتِ المتحدة الأميركية، وصاحبةِ النصيب الأكبر من العقوباتِ الاقتصاديةِ والسياسية والعسكرية منذ أن انتصرَ فيديل كاسترو في ثورتِه وأطاح بحكومةِ باتيستا عام 1959.
نُلحقُ بهذه الديناميكية تصريحاتٍ للرئيسِ الروسي فلاديمير بوتين يتحدثُ فيها عن تغييرِ العقيدة النووية الروسية استناداً إلى تصاعدِ المخاطر التي تتعرض لها روسيا في أوكرانيا، مع نشرِ بعض الأسلحة النووية غير الإستراتيجية في الدولةِ الجارة والحليفة بيلاروس، وإجراء مناوراتٍ مشتركةٍ على هذه الأسلحة مع الجيش البيلاروسي، إضافة إلى تهديدِ الرئيس بوتين بإمكانيةِ تقديم أسلحة من كل الأنواع ما عدا الأسلحة النووية، للدولِ المعادية للمحور الأميركي، أسوة بما دأبت على فعله الولايات المتحدة، وهذه سياسة يتم استخدامها للمرة الأولى ضد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، على مبدأ «العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم».
المُعلنُ من هذه الرحلة ومن هذه التحركاتِ والقراراتِ الروسية أكثر من المخفي، واللبيبُ من الإشارة يفهم، فهذا عالمٌ جديدٌ قيدُ التشكل، يعمل فيه الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس الصيني شي جين بينغ ومن يساندهما من زعماء العالم، على صنعِ تحالفاتٍ مدروسة تفككُ بهدوء وأناة التحالفاتِ التي سادت في العصر الأميركي إذا جاز التعبير، وعناصرَ قوتِه واستمراره واحداً واحداً، مبدئياً بالحربِ العسكرية والانتصارِ بها في الجبهتين اللتين تحدثنا عنهما سابقاً، بشكل مباشر في أوكرانيا وبشكلٍ غير مباشر وعبر الحلفاء في فلسطينَ المحتلة، وأيضاً عن طريق الدبلوماسية الذكية والمتمرسة التي تعمل على تكوين العديد من المنظماتِ والتحالفاتِ البديلة لما فرضته أميركا من أحلافٍ سابقة بحجةِ حفظ الأمن العالمي وعلى رأسها حلف الناتو السيّئ الصيت والأفعال، أو من خلال خلقِ حلولٍ للخروج من تحت مقصلةِ العقوباتِ الإجراميةِ التي تحارب بها الولايات المتحدة كلَّ الشعوب والدول التي تخالفها، إما بإيجاد بدائلَ عن الدولار في التعاملاتِ التجارية، أو بالالتفافِ على هذه العقوبات بإيجاد أسواق بديلة وموردينَ جدد.
بالمحصلة، أهمية ما يجري الآن هو أن المحورَ الثاني بدأ يتحركُ لفكّ عُرا هذه المظلمةِ المكرسة منذ زمن بعيد، لذلك وقعت هاتانِ المعركتانِ على ما يبدو، ورغمَ التكلفَةِ الإنسانية الكبيرة وعددِ الضحايا الذين يسقطونَ لحمايةِ أوطانِهم وأبنائهم من الإلغاء والاعتداءات، فإن ما يحدث يرسمُ ملامحَ العالم الجديد ويشكلُ مخاضاً عسيراً لولادتِه وسلامته، عالمٍ متعددِ الأقطاب قائمٍ إلى حدٍّ كبير على العدالة والتكافؤ والنديةِ بعيداً عن مفاهيمِ التبعية والعبوديةِ والاستغلال، وهو العالم الذي سيعيشُ فيه أبناؤنا وسينعمونَ بنتائجهِ لعشرات الأعوام المقبلة، بعد أن تكونَ لعنة الغربِ القذرةِ قد زالت.
صحفي سوري