ثقافة وفن

«الشريحة الإلكترونية» هل تعدّ تبشيراً بالقادم؟ … أمين الساطي ما بين الخيال والعلم والواقع

| محمد عنقا

يتساءل الكثيرون من القراء: من أين يستقي الكتّاب أفكارهم؟ لاسيما تلك التي تبدو غريبة في بعض الأحيان، لأنها لا تمت إلى تفاصيل حياتهم المعتادة المألوفة، ولا تنتمي إلى محيط ثقافتهم التي ورثوها، مشافهة عبر الأجيال، أم تعلموها في المدارس، وحفظوها عن ظهر قلب، وفي أغلب الأحيان لم يعوا بعمق دلالاتها، وأبعادها كما ينبغي لطالب المعرفة أن يعي ويفقه ما يردده كالببغاء، طلباً للحصول على ورقة الشهادة التعليمية التي تؤهله لوظيفة يعتاش منها، ليعتزل بعد ذلك عالم التعلم، بعيداً عن الكتب، إن لم يمزقها أو يحرقها، كما اعتاد التلاميذ المغتاظون من أجواء المدارس التقليدية أن يفعلوا-في بعض البيئات المتأخرة- بعد اجتيازهم الامتحانات، في آخر كل عام دراسي!

المشكلات المعاصرة

أصبحت كلمة «العلم» هي العصا السحرية القادرة على حل أعقد المشكلات وأشرسها، في هذا الميدان والميادين الأخرى كلها، ولكن لهذه «العصا» العجيبة أيضاً محاذير، وسلبيات كثيرة، يمكنها أن تعكر صفو حياة الإنسان أفرادا وجماعات، لا بد من التنبه إليها، والاستعداد لمواجهتها والاحتجاج عليها لمنع مخترعيها ومستثمريها من أشرار الناس الذين لا يتوانون عن استخدامها في استعباد الأفراد والأمم والشعوب، والسيطرة على أقدارهم ومقدراتهم، من دون رأفة ولا رحمة.

أبسط أنواع السرد

وحين نأتي إلى قصة الكاتب أمين الساطي، وعنوانها «الشريحة الإلكترونية» سنفاجأ بأنها من أبسط أنواع السرد القصصي المعروفة، فهي تحدثنا عن شاب في الخامسة والعشرين من عمره، يفاجأ -على غير توقع- بأن ذاكرته بدأت تخونه مع نوع من النسيان المتكرر، ويضرب لنا شواهد من بعض الحالات التي تنتابه، بين الحين والآخر، فهو يكاد ينسى أشياء وملامح كثيرة من عالمه، لم يعد يتعرف عليها، حتى إنه يكاد ينكر وجهه في مرآة الصباح، كما يواجه ضعفاً شديداً في القدرة على تعرف الأماكن والشوارع التي كانت مألوفة له، كالطريق إلى بيته، وسوى ذلك من الوقائع المؤسفة، فكان لا بد له -بعد هذه المعاناة المتفاقمة – من أن يزور عيادة أحد الأطباء، فيقوم هذا الطبيب بتشخيص الحالة وتوصيفها بأنها «نوبة فقدان ذاكرة عابر»، ويقدم له بعض الأدوية المعروفة لمثل هذه الحالة، لكنه يخرج من عيادة الطبيب بحالة نفسية سيئة جداً، تسلمه إلى مزيد من اليأس والغربة عن العالم، فيقع له حادث مؤسف -تحت تأثير من الذهول- حين يصدم بسيارته جسماً ضئيلاً، لم يتعرف إليه، سوى في اليوم التالي، حين استدعي إلى مخفر الشرطة، ليكتشف أنه داس بعجلاته كلباً لسيدة عجوز، كانت تقوده بالأمس في واحد من الشوارع، فتسبب بنفوقه، ولم ينج من عقابيل هذه الجناية، إلا بعد أن تدخل رجل الشرطة، فانفضت المشكلة بغرامة مالية مناسبة.

ومع تفاقم يأسه يعاود زيارة ذلك الطبيب، فينصحه بعلاج ناجع يتمثل بزرع شريحة إلكترونية في جانب من رأسه تساعده على تنشيط الذاكرة، بما تبثه من ذبذبات كهربائية، ويتعاطف ذلك الطبيب معه-حين يعرف عدم قدرته على تكاليف هذه العملية- فيصحبه إلى مختبر تابع للجامعة، حيث يتم إجراء العملية بنجاح عبر «روبوت» جراحي متخصص.

وهنا نتلمس موقف الكاتب المتوجس من النتائج السلبية لمثل هذه الشريحة، إذ يضع على لسان بطل القصة الخارج من المختبر هذه الجملة: «غادرت المستشفى وأنا أكثر ثقة بنفسي وأكثر عدوانية وتفاؤلاً بالمستقبل»!!

ولو وضعنا خطاً تحت كلمتي «أكثر عدوانية»، لوجدناه يطبقها في ثنايا فصول حياته وعلاقاته -بين الحين والآخر- مع الآخرين، وسنراه يعيد تقييم مواقفه من الناس والمجتمع، سلباً وإيجاباً، ولكن بصورة عشوائية، كما حدث في إعادة النظر بعلاقته مع زميلته في العمل التي كان ينوي خطبتها ذات يوم، وها هو يعجب من نفسه كيف كان يراها جميلة، مع أنها -كما يراها الآن- في منتهى القبح.

الإنسان في المختبر

وتتكاثر المكاسب والخسائر في يومياته بصور مختلفة متنوعة، لا يخلو بعضها من الطرافة، إلى أن تأتيه رسالة من ذلك المختبر الجامعي، تطلب منه الإسراع في مراجعته لانتهاء مدة التجربة، وهنا نسمع صوته الداخلي: «..أحسست بالخيانة، لم أكن أعرف حتى هذه اللحظة، أن هذه الشريحة متصلة بالأقمار الصناعية، وهي تزود المركز بالمعلومات عني، وعن محيطي، وأن هذه الشريحة أصبحت مركزاً محلياً للتجسس..». ويضيف: إنها «شريحة فائقة الذكاء تسمح للتكنولوجيا بالسيطرة على حاملها، وتحوله إلى شبه آلة يجري توجيهها وفقاً للتعليمات»!.. وفي ذلك المركز سيبلغونه بأن هناك شريحة أخرى أكثر تطوراً، سيتم زرعها بديلة عن هذه، عندما يتم إنجازها لاحقاً، كما سيبلغه الطبيب «بأن هذه الشريحة المتطورة بإمكانها أن تسيطر كلياً على وظائف الأعضاء بالجسم، كما يمكنها التحكم بمزاجي وانفعالاتي، وتجعلني سعيداً».

وتنتهي الحكاية بأن يدفع له الطبيب مبلغاً من المال ينفق منه، ريثما يأتي موعد الشريحة الثانية.. في حين يخرج هو فرحاً سعيداً بانتظار ذلك الموعد، وهو يردد مع نفسه: «لقد أصبحت أول مرة في حياتي آلة مفيدة للمجتمع».

تشريح القبح

ولعل ما يمكن أن يقال نقدياً عن هذه القصة القصيرة بمقاييس هذا الفن هو أنها جديدة الفكرة والموضوع، في إطار الثيمة القصصية (والدرامية تالياً) المعروفة التي تدور حول تعرض بعض الناس لمؤثر خارجي، ورصد التغيرات الفكرية والسلوكية التي تنتج عن ذلك، سواء أكانت هذه النتائج كوميدية أم تراجيدية، ويسجل لهذه القصة أنها مزجت بين هذين الفنين بنجاح معقول.

ولكن مما يؤخذ عليها أنها جاءت مضطربة السرد في مواضع عدة، ومثال ذلك أننا وجدنا البطل يقوم بتصرفات متشابهة قبل خوض التجربة وبعدها، ولم نجد مبرراً لأن يكون موقفه تجاه العجوز صاحبة الكلب عدوانياً ومتنمراً، إذ يصفها بأنها شديدة القبح، حتى إنه تمنى لو كان قد دهسها مع كلبها بسيارته! مع أنه خرج من المختبر بعد وضع الشريحة، عدوانياً كما رأينا أيضاً، وبذلك فقدت القصة عنصر التفريق بين حالتي الـ«قبل» والـ«بعد» اللتين يفترض أن تتمايزا.

كما يؤخذ على الكاتب أنه اكتفى بالوصف الخارجي وحده لمجمل الأحداث التي يمر بها البطل في علاقته بالآخرين، وكان من الأفضل أن يوظف تقنية الحوار هنا بين الشخصيات بما يكشف عن ذاتها وطباعها بنفسها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن