ثقافة وفن

البساطة والصدق في تسجيل الأدب ترفع مستوى الثقافة … النصوص الأدبية الإبداعية الرفيعة سيرة المجتمع القائمة على التوثيق والتشريح

| إسماعيل مروة

استطاع الأدب ببساطته وصدقه وإبداعه أن يكون صورة للمجتمع من دون جنوح مطلق إلى المبالغة، ومن دون الحاجة إلى اختلاق ما يمكن أن يحدث ذات لحظة في الواقع أو في الخيال، فقد أخذ الأدب سيرورته الطبيعية، بين النقل الواقعي، وبعض الرسم الجمالي الإبداعي، وكان الإبداع يتمحور في الأشياء المحيطة، أي بالبيئة، وفي معالجة النفس الداخلية للأبطال، وهذا ما جعل روائع نجيب محفوظ باقية، ولا تدانيها كتابات، من قصر الشوق إلى السكرية وخان الخليلي وميرامار وسواها من الأعمال التي صبغت نجيب محفوظ بالبيئة، وجعلته أديباً عالمياً يستحق نوبل وزيادة لأنه لم يخرج من إطار التصوير الفني الواقعي، وهذا ما فعله إحسان عبد القدوس الذي كان مرفوضاً، ومن ثم أعيد اكتشافه، وفي كل يوم يعاد اكتشافه في أنا حرة وأنف وثلاث عيون وغيرهما من الأعمال التي وصفت بالجرأة، ولكنها عندما أعيد اكتشافها مرات تبين أنها واقعية، ولا تحاول أن تخرج عن المألوف.

والأدب السوري

وحنا مينه من الشراع والعاصفة إلى الياطر وبقايا صور وغيرها من روائعه التي رسمت خريطة للبيئة والبحر والناس والفقر والغنى والحيتان، فبقيت هذه الروايات ذات المرجعية الواقعية خالدة، ولم تقترب منها حتى روايات حنا الأخيرة التي كانت تزجية للوقت، وإشارة إلى الاستمرارية.

والعجيلي وشكيب الجابري وبديع حقي في رواياتهم كانوا ناقلين للواقع، فالشخصيات عند عبد السلام العجيلي كانت بنت البيئة، وناتجة عن التجربة وصولاً إلى أرض السياد، والجابري استلهمها من بيئته ودراسته الباريسية، وحقي أخذها وهو المحامي من أروقة المحاكم، وأضفى عليها وصفه وأدبها، فحوّلها إلى شخصيات من لحم ودم تعيش معنا في جفون تسحق الصور وهمسات العكازة المسكنية وسواهما، لم يكتب مذكرات محامي الدفاع، وإنما استلهمها ليرسمها وفق عالم يحلم به ويريده أن يكون.

وكذلك فعل أغلب الأدباء من الدكتور محمد حسين هيكل إلى توفيق الحكيم وصولاً إلى يوسف إدريس الذي رسم حالات من قاع المدن والمجتمع، لكنها كانت حالات خاصة ضمن حالات أخرى تخلق توازناً في المجتمع الذي يقوم على السلب والإيجاب في الوقت نفسه.. ولم يختلف العالم الروائي الفني بكل الصور التي تنقل المجتمع إلى الكتاب، وكذلك ما كان من كوليت خوري في أيام معه وليلة واحدة، وهاني الراهب حتى آخر نقطة من إبداعه في رسمت خطاً في الرمال وخضراء كالبحار، ولا يغيب عن الذاكرة ما قدمه فارس زرزور من روايات باقية ترسم تفاصيل المجتمع.

الأدب ورسالته

ولو عدنا لقراءة هذا الأدب فسنجد أنه كان ذا أدبية جمالية وإصلاحية في المجتمع، لنقل صورة سلبية أو صور سلبية، ضمن إطار مجتمعي يحتوي صوراً غير محدودة إيجابية أو محايدة أو مراقبة.. وحسيب كيالي سيد الأدب العربي الساخر، قدّم بصورة ساخرة سلبيات المجتمع التي لم تكن محصورة في الجوانب الأخلاقية، وإنما وقف عند سلبيات التربية والتعليم وما شابه ذلك، وحين انتقلت أعماله إلى الدراما كانت ذات أثر بالغ لا يمكن أن ينساه من رآه، وما تزال صورة حسيب كيالي كما جسدها عمر حجو دالة على دور الأدب في معالجة السلبيات التي تعصف بنا.

موضوعاته

بين المحتل والفقر والغنى والخواجات مرت بقايا صور لحنا مينه، ولم يتحامل على مجتمع ينتمي إليه، ولم يقم بتجميله بحجة الانتماء، فما من مجتمع لا يحوي كل التناقضات من إيجاب وسلب، وما من رغبة لدى المتابعين في إخفاء السلبيات، لأن مهمة الأدب الإشارة إليها لتجاوزها، وهذا هو الفرق بين الأدب والفانتازيا والكاوبوي، لأن العمل على أرضية موجودة تختلف تماماً عن العمل في بيئة افتراضية، مهما حاول المبدع أن يدّعي الإسقاط وما شابه ذلك.. حتى في الأدب العالمي، لمع أدب روائي عظيم، لكنه لم يستطع أن يسلب الأدب الواقعي مكانته، بل إنه يدور في فلكه، بؤساء هوغو، وعمال البحر له من أساطير العمل الأدبي التي يدور في فلكها الأدب المكتوب إلى اليوم، وكذلك قصة مدينتين وأوليفرتويست لديكنز، والحرب والسلام وآنا كارينتا لتولستوي، أما الإخوة كارا مازورف والأبله والمقامر لويستوفوسكي فحكاية أخرى، وتشيخوف وغوغول مدرستان لتصوير المجتمع والظلم وجي دي موباسان وغيرهم، لا يقصد من ذلك الحنين إلى الماضي، ولابد من التطور، واختلاف أساليب القص والرواية عبر الأزمان.. ولكن الحديث عن الجوهر هو الباقي الذي لا يمكن أن يغفل أثره.

خطورة غياب الأدب

حين تغيب دراسة المجتمع روائياً وأدبياً من أجل التشويق والفضح وتعميم السلبي فإن القادم أسوأ بكثير، والحديث هنا ليس وعظياً، فكل من ذكرتهم لم يستعمل الوعظ ولم يكن واعظاً، لكنهم كانوا ينتمون إلى المجتمع والإبداع في الوقت نفسه، فجاءت الصور التي تعد انتقاداً للمجتمع، ولكن هؤلاء الأدباء لم يتجاهلوا في الوقت نفسه وجود عالم متكامل..

في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته عملت دوائر على أدب إباحي حوّل كل شيء إلى صورته، وانتشرت روايات إباحية جنسية، وقد وقفنا عندها يومها، وبعضها قام بتحويل (رجوع الشيخ إلى صباه) إلى عمل روائي، والغريب أن أكثر هذه الأعمال كانت صادرة عن كاتبات أديبات، لغايات محددة، وأغلب هذه الأسماء أدت دورها، ولم يعد لها من جود، وبعض هذه الروايات عملت على تفتيت المجتمع من الداخل، ومحاولة فضحه بما فيه وبما ليس فيه، وخاصة في المجتمعات التي يجهل القارئ عنها الكثير، وتلك الحملة رفعت أسماء، وصنعت جوائز، وصنعت تياراً جارفاً يسعى وراء الشهرة والجوائز، ويعمل على الوصول، فضاعت رواسم الأدب وحدوده!

الأدب والتاريخ

حتى في الجوانب التاريخية، لابد أن نتذكر أن الروايات التاريخية التي بدأت في أدبنا العربي ارتكزت على التاريخ، من معروف الأرنؤوط إلى كتاب سير العظماء في تاريخنا، ولو عدنا إلى هذه الكتب والروايات فإننا سنجدها ذات أرضية راسخة لم تلعب بها الأهواء والميول السياسية والطائفية والمذهبية، فتناولت التاريخ بوصفه التاريخ وليس بوصفه الإشكالي بما في ذلك الأعمال العظيمة لعبد الرحمن الشرقاوي، عليٌّ إمام المتقين، الحسين شهيداً وغير هذه الأعمال، فإنه تناول الموضوعات لإنصافها وليس بذرائعية الهجوم على الآخر، لأن الأدب الذي يصدره أديب متمكن غايته رصد ظاهرة، وليست غايته الانتصار لجانب على آخر، والسبب الأكثر أهمية يتمثل في أن الأدباء الحقيقيين يدركون خطورة التوثيق، فيقومون به في موضوعية، وهم عميقو الغور، لا يؤخذون بعبارة من هنا أو هناك، ولا يعتمدون التشويق والإثارة إلا من خلال الموقف كما فعل عبد الرحمن الشرقاوي في حديثه عن الكلمة على لسان الحسين، وهذا القول صاغه كما لو أنه كان بالحرف عن الحسين، تحدث عن الكلمة وأثرها وأبعاد تأثيرها معتمداً على المغزى البعيد الذي حوّل النص إلى حكمة دائمة، وليس إلى تشويق مؤقت يزول بزوال الحالة.

الأدب الباقي

زالت كل الحالات والمؤثرات، وبقي دستويفسكي وتولستوي وديكنز وهوغو، بقيت النصوص الأدبية شاهدة على ما يمكن أن يمثل الوثيقة الأرقى للحالة الاجتماعية، فكان المقامر حالة فردية، وكان الأبله حالة اجتماعية، وكان الإخوة كارامازوف للبحث عن الحب، وآنا كارنينا حالة الحب الملونة بالألم، وأوليفر تويست طفولة الشقاء في مجتمع ما، ولكن في كل الحالات كان الأدب راقياً بحيث لم يعمم الحالات، وإن كانت من حالات موجودة مثل سي السيد، وبحارة حنا مينه، والذين وقع عليهم الظلم عند بديع حقي في قاعات المحكمة.

علينا أن نبحث عن نصوص الأدب، لأنها السيرة الحقيقية للمجتمع، قائمة على الفكر العميق، وعلى التقصي والتشريح، وشخصيات مبنية بإتقان وحب لها، حتى وإن كانت ظالمة أو خاطئة، لأنها نموذج وقع ضحية المحيط. فلنعد إلى النصوص الأدبية القديمة والحديثة لنقرأ أنفسنا وتاريخنا، ونترك الاعتماد على أنصاف قراء هبشوا كلمة من هنا وأخرى من هناك، وألا نعتمد على برنار لويس وما أدراك من هو في تسجيل تاريخنا ليزيد الأمور الخلافية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن