قضايا وآراء

«حماس فكرة».. المقاومة فكرة

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن باتت الحرب على غزة على حواف شهرها التاسع، بدا واضحاً أن ثمة تباينات راحت تتبلور شيئاً فشيئاً فيما بين القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيليتين، والفعل من حيث النتيجة راح يتخذ طابعاً هو أقرب للتضاد في أحيان عدة على وقع الإخفاقات التي منيت بها العمليات العسكرية لجيش كان الظن أنه الأقوى في المنطقة، وعليه راحت أهداف الحرب المعلنة تتلاشى وتتكسر على صخرة التلاحم الأسطوري فيما بين المقاومة الفلسطينية وبين شارعها الذي أثبت صلابة تليق بقضيته، وتليق أيضاً بطهارة هذه الأخيرة التي تكالبت عليها شعوب الغرب «المتحضرة» بدرجة دفعت بالعديد من التساؤلات التي طالت عمق أنسجة تلك الشعوب، فيما البحث لا يزال جارياً لإيجاد إجابات أبرزها من نوع: ثم إلى أين؟ وأي منحنى جديد سوف يرسمه مسار الغرب «الحضاري» ما بعد غزة؟

وعلى حواف الأشهر التسعة للحرب أيضاً، بدا أن الخيارات الإسرائيلية ماضية نحو اختناقات أشد، ما يدفع بالأزمة إلى مصاف «الوجودية»، صحيح أن الكيان لا يزال يمتلك ترسانة عسكرية هي الأعتى، وصحيح أن تلك الترسانة لا خوف عليها من «العوز» فحبل المشيمة الموصول فيما بينها وبين مستودعات الغرب كفيل بألا تعاني «مرضاً» من ذاك النوع، لكن الصحيح أيضاً أن تراكم السلاح وتكدسه يمكن له أن يتحول إلى عبءٍ إذا ما كانت الأذهان، والأيدي، التي تستخدمه غير قادرة على تحديد دوره، أين يبدأ؟ وأين ينتهي؟ وما تقوله تجارب التاريخ في هذا السياق هو إن القوة العسكرية لا يمكن لها أن تكون، مهما بلغ عتيها، مبرراً وحيداً لقيام الكيانات واستمرارها، بل على العكس فإن تلك القوة لعبت، في بعض الحالات، دوراً هو أقرب لشطب إمبراطوريات بحالها من الوجود على نحو ما حدث للإمبراطورية الآشورية، مثلاً، التي كان الاستخدام المفرط للقوة عندها داعياً هو الأهم، جنباً إلى جنب عوامل أخرى، لتفككها ومن ثم زوالها.

قبل أيام خرج المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري ليقول: إن «الاعتقاد بإمكان تدمير حركة حماس وإخفائها، هو ذر للرماد في عيون الإسرائيليين»، ثم أضاف في مقابلته مع «قناة 13» التلفزيونية العبرية: إن «حماس فكرة لا يمكن القضاء عليها، فالإخوان المسلمون موجودون في المنطقة»، وعلى الرغم من أن تصريحات هاغاري كانت أشبه بـ«رسائل مشفرة» من النوع الذي يجري تبادله ما بين السطحين السياسي والعسكري الإسرائيليين في محاولة من كل منهما لرمي الكرة في ملعب الآخر لتبرير إخفاق غير مسبوق لا أدل عليه من أن الحرب باتت على أعتاب شهرها التاسع، وتلك لوحدها تعني الكثير بالنسبة لجيش مصمم أصلاً على مقاس حروب صغيرة وخاطفة، إلا أن قوله: إن «حماس فكرة» يقع بالتأكيد خارج تلك السياقات، وهو يشير إلى تناقض كبير فيما بين سطحي الكيان، السياسي والعسكري، آنفي الذكر، والمؤكد هو أن التشخيص القائل إن «حماس فكرة» هو تشخيص صحيح لأن المقاومة فكرة، ولأن اللبوس الذي تختاره أي مقاومة يظل محكوماً باعتبارات وحقائق تفرضها الظروف وكذا التجارب، والشاهد هو أن حركات التحرر الوطني الفلسطينية جربت كلها، على امتداد ما يزيد على ستة عقود، كل «اللواصق» السائدة في مجتمعها، ومحيطها، بدءاً من القومي إلى اليساري إلى الإسلامي إلى أن استقر الأمر على هذا الأخير في ضوء تعثر الأولين لاعتبارات لعل من أبرزها تراجع المد القومي ما بعد هزيمة حزيران 1967 وصولا إلى مؤتمر مدريد للسلام 1991 الذي كان نتيجة لهزيمة العراق في الكويت، وكذا تراجع المد اليساري بفعل تفكك وانهيار المنظومة الاشتراكية وصولاً إلى دخول اليسار العربي في نفق لا يمكن التنبؤ بالمدى الذي سيطول إليه، وما جرى هو أن ذينك «المديين» اللذين كانا يشكلان الثقل الأوزن داخل «منظمة التحرير الفلسطينية» مضيا في مسارات لا أفق لها هي الأخرى، ولم تنتج على مدى يزيد على العقود الثلاثة سوى المزيد من الرضوخ والتبعية، فما الذي كان منتظراً من ذات جماعية أثبتت أنها عصية على التذويب وكدلالة على ذلك صادرت، عفوياً، كل أنواع القماش الأبيض من ديارها كيلا تهن عزيمة البعض في لحظة تتعالى فيها ألسنة النار، فيقوم هؤلاء برفع تلك الأقمشة كـ«رايات بيض» دلالة على الاستسلام؟ وما الذي كان منتظراً تجاه هوية جهدت قوى العالم بأسره لتذويبها تماماً كما فعلوا مع «الهنود الحمر» في بلاد «العم سام» عندما تواطأ الكل، إما بالصمت أو بالتأييد وهم موقنون بأن كلا الفعلين يمهد لتكرار تجربة هنا أو أخرى هناك؟

«حماس فكرة».. والمقاومة فكرة، ولم يسبق لأي قوة أن هزمت شيئاً من هذا القبيل، وحدها الأفكار هي التي يمكن أن تفعل، فالفكرة تهزمها نظيرة لها، متناقضة معها أو هي تأتي في سياق تطويرها أو تصحيحها، قد تحقق القوة غلبة في جولة، أو جولات، ولعل ذلك يطول لردح من الزمن، لكن المؤكد هو أن ذلك لا يؤثر كثيراً في المنحى العام لأي صراع، والشعوب في النهاية لا تفنى بالحروب مهما طال أمدها أو اشتد أوارها، وهي تفنى فقط بالمساومة على وجودها.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن