سامي مبيض يوثق (سورية في أوراق تشرشل 1940-1945) … تشرشل كان متكبراً.. متعجرفاً.. عنصرياً لكنه زعيم تاريخي لبلاده قادها في أحلك الظروف
| إسماعيل مروة
يعد التوثيق من أكثر أنواع الكتابة أهمية وخطورة لبناء المجتمعات، تأسيساً على ما سبق ويعاد اكتشافه من خلال الوثائق السرية وغير السرية، الفردية المتمثلة في المذكرات، أو تلك التي تحتفظ بها الدول في مصنفاتها إلى أن يفرج عنها، وتزداد أهمية الكتابة التوثيقية عند وجود الرؤية والتحليل والاستشراف عند من يتصدى لها- الصديق الدكتور سامي مروان مبيض، واحد من أهم كتاب التاريخ الموثقين على المستوى العربي، وقد تصدى لتوثيق التاريخ العربي الحديث في عدد من دراساته الرائدة والمهمة، ودخل في شعاب موضوعات حارة استطاع أن يجلوها بتضافر أمرين: الوثيقة وتحليلها، فأغنى جوانب مهمة من هذا التاريخ، وليس أدل على أصالة عنايته التاريخية من مؤسسة تاريخ دمشق التي كانت برؤاه مع شركائه.. واليوم يصدر كتاب غاية الأهمية (سورية في أوراق ونستون تشرشل) عن دار رياض نجيب الريس ليكشف جوانب مهمة في التاريخ السوري والعربي.
مجال الكتاب ومصادره
عنوان الكتاب سورية في أوراق ونستون تشرشل، وبذلك أراد الدكتور مبيض أن يحصر طرفي الكتاب، ففيه كل ما يتعلق بالأوراق السورية التي لها مساس بالسياسي البريطاني، ورأي تشرشل في حقبة سياسية مهمة من تاريخ العالم وتشكل العالم بعد الحرب العالمية، وانتقال الهيمنة العالمية بين عامي 1940-1945 ومن خلال فصول: لو فنيت سورية، البدو أولاً ثم التجار، سقوط باريس ودمشق، بريطانيا والشيخ تاج، الطريق إلى قصر المهاجرين، يعيش تشرشل بعيش سبيرز الليدي سبيرز وسيدات سورية، قمة القوتلي- تشرشل, الاستخبارات والشائعات، الجلاء، الكولونيلان فوكس وستيرلينغ، اللعب بالنار، الرقع والراقع.
يلاحظ من عناوين هذه الفصول في الكتاب الذي زاد عن مئتي صفحة تركيز اهتمام الباحث المؤرج مبيض على توثيق هذه السنوات المتعلقة بسورية، اعتماداً على أوراق تشرشل، لتكون جولته التوثيقية ذات مرمى أكثر اتساعاً وبعداً ليقدم السياسة العالمية كلها تجاه سورية والعرب، وآليات الحكم والتدخل واختيار الشخصيات، واعتمد في ذلك على مذكرات تشرشل بصورة أساسية، والأرشيف البريطاني والوثائق التي استطاع أن يطلع عليها، ومن الدرجة الثانية كانت المصادر من مذكرات الساسة، ورجال الدولة الذين عاصروا المرحلة وكانوا فاعلين، من ذلك مذكرات مردم بك والأرمنازي، ومذكرات الرئيس شكري القوتلي، وإن كانت غير منشورة والباحث سمع منها أو اطلع عليها بشكل خاص لم يتهيأ لغيره أن يطلع عليها..
وفي هذا السياق سنجد أن الكاتب في فصول الكتاب يسرد أمراً ما، ويقوم بتوثيقه وتسجيله، وقد يعرض أحياناً للرواية المعروفة عند الناس، فيرجح بالأدلة، ويبني بالأدلة وهو بمعرفته التاريخية ملم بكل ما يدور حول تلك المرحلة من حكايات وقصص يتم تداولها، لذا جاءت الفرصة لتقديم الوثائق و القراءة العلمية التي تصوّب روايات منشورة ومعروفة.
تشرشل وشخصيته وسورية
قد يسأل سائل عن الرابط بين سورية وتشرشل الذي جعل الكتاب يحمل هذا العنوان، خاصة في زمن كانت رحى الحرب العالمية تدور، وسورية تحت الاحتلال الفرنسي، وما نوع هذا الرابط؟
المؤلف في الصفحة الأولى من كتابه يبين ذلك، والرابط هو ما يربط الدولة الاستعمارية العالمية آنذاك بالعالم، خاصة الذي يقع تحت الظلم ويحتاج مساعدة القوي ضد ظالم آخر (دعي ونستون تشرشل لزيارة سورية ثلاث مرات)، مرتان إلى العاصمة دمشق، ومرة إلى السفارة السورية في لندن.
كانت المرة الأولى سنة 1945، يوم سمع رئيس الجمهورية شكري القوتلي أن رئيس وزراء بريطانيا العظمى ينوي التوجه إلى البحر الأسود لعقد مؤتمر في مجتمع يالطا مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، والزعيم السوفياتي جوزف ستالين عرض عليهم القوتلي عقد اجتماعهم في دمشق مسوغاً مقترحه بأنهم اجتمعوا في مدن قريبة في الماضي القريب، منها القاهرة وطهران، وبذلك سيكون من المناسب استضافتهم في سورية، وفي المرة الثانية جاءت الدعوة بعد خروج تشرشل من الحكم، يوم جلاء القوات الفرنسية عن سورية في 17 نيسان 1946، في المرة الأولى لم يكلف تشرشل نفسه حتى بالرد على الدعوة، وفي المرة الثانية اعتذر برسالة شديدة اللهجة، قال فيها إنه لا يرى داعياً للاحتفال، ويفضل لو احتفل السوريون بعيد الاستقلال الذي أعطي لهم بفضل دعم حكومته سنة 1941.. أما المرة الثالثة والأخيرة فكانت يوم دعوته إلى مقر السفارة السورية في لندن في الذكرى الأولى للجلاء سنة 1947، وقد ردّ تشرشل حينها بالقول: «لا أعتقد أن من المناسب أن يتوافق العيد الوطني لسورية مع جلاء القوات الأجنبية، وبالنسبة إلي شخصياً لا أريد أن أشارك في مثل هذا الاحتفال».
في هذا المدخل المأخوذ من الوثائق التاريخية يظهر الكاتب د. مبيض العلاقة التي تجمع هذا السياسي البريطاني بسورية، وهذا المدخل يبين العلاقة الشخصية والرأي الشخصي له، والقارئ يجب أن يقف أمام الردّين من تشرشل، فهو لا يعطي الجلاء قيمة، ولا يشارك فيه من خلال رؤيته الاستعمارية الاستعلائية، وفيهما لا يشارك الشعوب المتحررة فرحة حريتها، ولا يسجل على نفسه وعلى بريطانيا مشاركة، وكأن الشعوب الاستعمارية لا تؤمن بهذا الجلاء الذي فرضه الظرف وتحدي الشعوب، وإن كان لابد من الاحتفال فيحتفل حسب رأيه بالاستقلال الذي دعمته بلاده.
ويشير المؤلف إلى أن تشرشل لم يرد على دعوته لعقد الاجتماع في دمشق ما يحمل دلالات سيوردها في الصفحة نفسها، وربما عقدت اجتماعات في القاهرة وطهران لأنهما لم تقعا تحت الاحتلال المباشر في ذلك الوقت، والتبعية بريطانية، وحبذا لو تم تحليل هذا الأمر، وخاصة لاجتماعات تنجم عنها اتفاقيات تحمل اسمها في الوثائق التاريخية.
مواصفاته الذاتية ومع الآخر
«كان السير ونستون تشرشل، متكبراً، متعجرفاً، عنصرياً ولكنه في الوقت نفسه زعيم تاريخي لبلاده قادها في أحلك الظروف وغيّر من خلالها خريطة العالم كله، بما فيه طبعاً منطقة الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر، وعن علاقته بسورية، يقاطع مبيض المعلومات والتقارير ليذكر المواصفات لتشرشل مع الآخر «من مراسلات تشرشل الحكومية، وإلى ما جاء على لسان أعوانه ومستشاريه، ومعهم السفير إدوارد سبيرز، رجل بريطانيا الأول في سورية يومئذ الذي وضع مذكرات مهمة للغاية عن تجربته قبل وفاته سنة 1974، لم تترجم بعد إلى اللغة العربية كذلك عدنا إلى المحاضر الأساسية لاجتماعه الوحيد مع الرئيس القوتلي سنة 1945، وإلى ما قاله القوتلي في مذكراته الصوتية التي لم تنشر حتى اليوم، قال الرئيس السوري إنه كلما فاتح تشرشل بموضوع استقلال سورية ومستقبلها، طلب الأخير إليه التأجيل أو التروي بحجة عدم انتهاء المعارك في أوروبا، انزعج القوتلي من هذا التسويف..».
ويذكر موقف تشرشل من الإسلام عندما عين في السودان: «ما أفظع لعنات المحمدية بأتباعها! قد يظهر المسلمون صفات رائعة كأفراد، فهم شجعان ومخلصون للملكة، وكلهم يعرفون كيف يموتون (في إشارة إلى الشهادة في سبيل الله)، لكن تأثير الدين في هذه البلاد يشلّ التنمية الاجتماعية لأتباعه».
ويظهر دور تشرشل الاستعماري كما يسرده المؤلف من تعيينه 1921 لوزارة المستعمرات حين أرادوا الاستفادة من نشاطه وفكره الخلاق، وهنا يؤسس قسم الشرق الأوسط وتبرز علاقته بلورنس العرب.
وعن علاقته السياسية بسورية يذكر مبيض بوضوح (حتى 1941، لم تظهر سورية في أي من خطابات تشرشل، ولم يعطها أي اهتمام يذكر، لكونها من حصة الفرنسيين في المشرق العربي.
أول قراراته المصيرية بشأن سورية جاء رداً على احتلال فيشي، وقال: إنه ينوي غزوها لتحريرها من النفوذ الألماني، منعاً لتكرار ما حدث معه في إيران والعراق».
التوثيق والعلمية
اعتمد د. مبيض الوثائق والمذكرات ما نشر منها وما لم ينشر بالعربية، وقد بدأ كتابه بعلمية عن حقيقة علاقة تشرشل بسورية ،وفي تضاعيف الكتاب يظهر أنه لم يكن يأتي على ذكرها، وقد فصّل في الصورة الوحيدة التي جمعت القوتلي بالسير تشرشل في القاهرة، وتفاصيل اللقاء معه ومع الملك عبد العزيز والملك فاروق، ويوثق كلمة القوتلي للأمة بعد عودته من اللقاء، ما يظهر حقيقة ما جرى على عكس ما تمّ نشره في الإعلام المحلي، أو بطريقة أقرب للصوابية، فماذا قال القوتلي؟ وبماذا عقب المؤلف؟
«كان اجتماعي برجل بريطانيا العظيم المستر تشرشل ووزير خارجيته المستر بايدن، وتحدثي إليهما باعثاً على شعوري بالارتياح والرضى، ولقد لقيت لديهما من الإقبال على بياناتي والإصغاء إليها من عطف على مطالبنا المشروعة وسلامة دعواتنا العادلة، إن ما يمكنني أن أقوله الآن، بعد رحلتي القصيرة واجتماعاتي الكثيرة أن استقلال هذه البلاد مصون ومحترم وأننا أقوياء بحول الله».
ويعقب مبيض: «رحبت الحكومتان البريطانية والأميركية بقرار القوتلي، نظراً لما فيه من رمزية عالية، وهما تدركان جيداً أن دخول سورية الحرب لن يقدم ولن يؤخر، لأنها لم تكن تملك جيشاً يحارب، بعد أن حطمت فرنسا الجيش السوري وحلته إبان معركة ميسلون 1920».
وهذا النص لخطاب القوتلي وتعقيبه عليه يظهر أهمية تفنيده «للكلام الإنشائي الذي حرصت وسائل على بثه، وقد ذكر رواية نصوح بابيل المبالغ فيها عن الحوار والصوت المرتفع حين يقول لتشرشل: «إن هذا الرجل- الملك عبد العزيز- أغلى شخص عندي في هذه الدنيا، والله ثم والله لو أراد إجباري على الاتفاق مع فرنسا لقاتلته».
ركز الرئيس القوتلي على فكرة الاستقلال المصان، وهذا يتوافق مع الردّين اللذين أثبتهما مبيض لتشرشل حين رفض المشاركة في الجلاء، ورأى الاحتفال بالاستقلال الذي ساعدت فيه حكومة بريطانيا كما يرى تشرشل.. فجاءت لفظة استقلال في كلمة القوتلي مكان كلمة الجلاء.
جولة أفق للواقع السوري
اختار المؤلف عنواناً لكتابه (أوراق تشرشل) ومن البداية حدد ثلاثة مفاصل ومناسبات لعلاقة تشرشل بسورية، لكنه اغتنم الفرصة المحددة (1940- 1945) ليقدم جولة أفق للواقع السياسي في سورية، فأغنى القارئ بالتعرف إلى الطبقة السياسية الموجودة آنذاك وعلاقة هذه الطبقة بالدول المؤثرة التي تلتقي على غايات مشتركة فيما بينها، وتتصرف وفق مصالحها، وهذا ما جعل المؤلف يدافع عن القوتلي من أنه رجل بريطانيا حسب بعض منتقديه، ليقول: لو كان كذلك لأعادوه إلى الحكم بعد الانقلاب عليه كما أعادوا نوري السعيد..!
وهذه الجولة دخلت في الواقع الاجتماعي بالكلمة والصورة، فبيّن علاقات سيدات المجتمع مع سيدات السياسيين الذين حلوا في سورية في ذلك الوقت.
«لو كان القوتلي صنيعة بريطانيا، كما زعم معارضوه، لتدخلت لندن سريعاً لإنقاذه وإعادته إلى الحكم، كما فعلت مع نوري السعيد في العراق يوم انقلاب رشيد عالي ا لكيلاني عام 1941، ولكنها لم تحرك ساكناً لأجله».
«في كانون الأول 1944 دعي الجنرال إدوار سبيرز إلى حلقة ذكر في منزل هاشم عيطة، شيخ الطريقتين السعدية والبدرية».
كما يعرض مبيض لمقال يدّعي استناده إلى الوثائق عن رواية بريطانيا عن رؤيتها لسورية قدمه تشرشل ووضع له مهلة للقبول به، ولم يقبل به القوتلي، ولكنه لا يرجحه ويتركه على عهدة كاتبه.
كتاب مهم يضيفه الدكتور المؤرخ سامي مبيض إلى المكتبة التي أنجزها، وفيه الكثير من النقاط التي يمكن الوقوف عندها والإفادة منها، خاصة في هذا الوقت الذي تعاد فيه صياغة التحالفات والعالم، يكشف فيه حقائق كانت مطوية، وكعادته يختم كتابه بفهرس تفصيلي لازم للكتب الوثائقية لسهولة العودة إليها.