قضايا وآراء

الذكاء الاصطناعي ورأس المال البشري

| د. قحطان السيوفي

يعرف الذكاء الاصطناعي بأنه الذكاء الذي تبديه الآلات والبرامج بما يحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها، مثل القدرة على التعلم والاستنتاج، ورد الفعل على أوضاع لم تبرمج في الآلة، كما أنه اسم لحقل أكاديمي يعنى بكيفية صنع حواسيب وبرامج قادرة على اتخاذ سلوك ذكي، ومن جانب آخر يعرف جون مكارثي، الذي وضع هذا المصطلح سنة 1955 بأنه «علم وهندسة صنع آلات ذكية».

إن الهدف من الذكاء الاصطناعي هو إنشاء أنظمة ذاتية التعلم تستخلص المعاني من البيانات، ويُمكن لتقنية الذكاء الاصطناعي الاستجابة بشكل هادف للمحادثات البشرية، وإنشاء صور ونصوص أصلية، واتخاذ القرارات بناءً على مُدخلات البيانات، عملياً أصبح الذكاء الاصطناعي الشغل الشاغل لأغلب حكومات الدول الصناعية الكبرى؛ لإدراكها أن العالم يقف عند فجر حقبة جديدة، ستغيّر حياة البشرية والطريقة التي تعيش وتعمل بها في عدد كبير من المجالات والقطاعات المختلفة.

في عام 1950 قام العالم البريطاني آلان تورنج بتقديم ورقة بحثية بعنوان «آلات الحوسبة والذكاء»، تتضمن دراسة مدى إمكانية قيام الآلات بالتفكير، وفي هذه الورقة البحثية، صاغ تورنج لأول مرة مصطلح الذكاء الاصطناعي وعرضه كمفهوم نظري وفلسفي.

وبين عامي 1957 و1974، سمحت التطورات في الحوسبة لأجهزة الكمبيوتر بتخزين المزيد من البيانات ومعالجتها بشكل أسرع، وخلال هذه الفترة، كان الهدف الرئيسي من هذه الورقة البحثية لـ«آلان تورنج» هو استكشاف ما إذا كانت أجهزة الكمبيوتر بإمكانها نسخ اللغة المنطوقة وترجمتها، وخلال الثمانينيات من القرن العشرين، استمرت عملية التوسع في مجموعة الأدوات الخوارزمية التي استخدمها العلماء في الذكاء الاصطناعي.

بين عامي 1990 و2000، حقق العلماء العديد من أهداف الذكاء الاصطناعي الأساسية، مثل تحقيق الفوز على بطل العالم في الشطرنج، ومع وجود المزيد من بيانات الحوسبة وتزايد قدرة المعالجة في العصر الحديث أصبحت أبحاث الذكاء الاصطناعي الآن أكثر شيوعاً وأكثر سهولةً.

يُمكن للبرامج إنشاء واتخاذ القرارات والتعلّم بمفردها، وهي مهام كانت تقتصر في السابق على العنصر البشري، ووفقا لتقرير حديث صادر عن معهد ماكينزي العالمي، فإن 30 بالمئة من ساعات العمل الحالية في البلدان الصناعية قد تتحول إلى التشغيل الآلي بحلول عام 2030، في ظل سيناريو التشغيل الآلي المعتدل.

إن الذكاء الاصطناعي يؤذن بتسارع كبير وتغيير مؤلم في حياة كثير من الناس الذين افترضوا أن حياتهم المهنية مستقرة، والذكاء الاصطناعي ليس قضية اقتصادية فقط، ولا هو مجرد الروبوت، أو تلك التكنولوجيا التي تؤسّس لثورة طبية جديدة، أو التعليم والصناعة، أو المركبات من دون سائق؛ بل أصبح أداة سيطرة وهيمنة، وفرض نفوذاً من خلال التكنولوجيا العسكرية والدفاعية الصاعدة، وأكبر الاستثمارات فيه التي تقوم بها الولايات المتحدة والصين، هي في هذا المجال.

في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ عدد الأشخاص العاملين كموظفين في المكاتب، وفي التصنيع، سينخفض مع ترسخ الذكاء الاصطناعي، واستناداً إلى دراسات، قد تشهد أوروبا 12 مليون انتقال مهني على مدى الأعوام الستة المقبلة، بالمقابل على صعيد المخاطر هناك خطر حقيقي في خفض بعض الوظائف في المهن الإدارية المنخفضة الأجر.

تعد التطبيقات الضخمة للذكاء الاصطناعي، تمهيداً لحرب ناعمة بين الآلة والإنسان، ولا يمكن قراءة استقالة جيفري هينتون، الذي يطلق عليه «الأب الروحي للذكاء الاصطناعي» من شركة غوغل أوائل أيار 2023، إلا في سياق «جرس الإنذار» الذي ينبّه البشرية إلى تلك المخاطر العديدة المتعلّقة بالذكاء الاصطناعي، فالعالم دخل فعلياً مرحلة جديدة عنوانها السباق في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، لكن إذا لم يتم وضع قواعد ناظمة لهذا السباق؛ فإنّه قد يخرج عن السيطرة، لأنه يثير العديد من المخاطر والتهديدات الأمنية والأخلاقية؛ نتيجة الاعتماد المتزايد عليه.

تشير التقديرات إلى أن حوالي 800 مليون شخص سيفقدون وظائفهم خلال الأعوام المقبلة؛ بسبب تطوير الشركات التكنولوجية العملاقة جيلاً جديداً من البشر الرقْميّين الذين سيتفوقون على العُمّال والمُحترفين من البشر، بل يتوقّع بعض العلماء أن يحلّ الذكاء الاصطناعي، مكان البشر في 99 بالمئة من الوظائف في غضون العقدين المقبِلين، والبعض يخيفنا من هذا الوحش القادم، فالذكاء الاصطناعي، لن يؤثر فقط على وظائف الناس و«أكل عيشهم» بل سيحلُّ محلّ الإنسان، وربما سيقود الإنسان نفسه، واليوم يترقب العالم بحذر تطورات التنافس في مجال الذكاء الاصطناعي، لأنّ من سيقوده، سيمسك بزمام الثورة الصناعية الخامسة.

أصبح الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تكنولوجيا مدهشة، بل أصبح ركيزة حاسمة للمستقبل الذي كان يوماً ما خيالاً علمياً في شرقنا العربي والإسلامي، واستفادت بعض التنظيمات المتطرفة والإرهابية من تقنية الذكاء الاصطناعي ووسائله الحديثة، مثل: «بودكاست» وغيرها.

حتى الدواعش وظفت التكنولوجيا، لأغراضها الإرهابية، وبالمقابل المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا نبهت إلى ضرورة «إطلاق العنان لقوة التكنولوجيا ودمجها بالموارد البشرية القادرة على التنقل بين الوظائف والفرص المختلفة بطريقة أكثر مرونة»، وهذا يجعلنا نقول إنه رغم صعود الذكاء الاصطناعي، يظل الاستثمار في البشر ضرورياً لتحقيق النمو.

إن الاستثمار في رأس المال البشري يعني تزويد الناس بالمعارف والصحة الجيدة والمهارات حتى يتمكنوا من شغل وظائف اليوم، وخلق فرص عمل للمستقبل.

وعندما تستثمر البلدان والمجتمعات المحلية في البشر، فإنها تخلق قوة عمل قوية قادرة على النمو والتكيف مع التحولات العالمية، بما في ذلك التحولات التكنولوجية وتغير المناخ.

نائب رئيس البنك الدولي لشؤون التنمية البشرية، مامتا مورثي، نصحت الحكومات بإعطاء الأولوية للاستثمار في البشر لأن هذه الاستثمارات في رأس المال البشري يمكن أن تحقق أعلى العوائد، ويُشاع على نطاق واسع أن الذكاء الاصطناعي سيحقق مكاسب في الإنتاجية يمكن أن تقود إلى النمو الاقتصادي، ولكن لن تتحقق هذه المكاسب إلا إذا استثمرنا بالقدر نفسه في العنصر البشري، أي إن الاستثمار في رأس المال البشري يجب أن يكون موازياً للاستثمار في التكنولوجيا.

في السنوات الأخيرة، حققت تقنية الذكاء الاصطناعي قفزات كبيرة، وتعد تقنية «التعلم العميق» أبرز مظاهره، وهي ترتكز على تطوير شبكات عصبية صناعية تحاكي في طريقة عملها أسلوب الدماغ البشري، ولا شك أنه ستكون هناك اختلافات كبيرة في كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي في اقتصادات الأسواق الصاعدة والنامية، وبالتالي، في كيفية استجابة صناع السياسات في هذه الاقتصادات.

وبينما العمالة في هذه الدول أقل عرضة لمخاطر الذكاء الاصطناعي، فهي أيضاً تحظى بحماية أقل من خلال برامج الحماية الاجتماعية الرسمية مثل التأمين ضد البطالة، وختاماً فإن الأمر المهم كله يتعلق بكيفية تحقيق التعايش بين رأس المال البشري والآلات في عصر الذكاء الاصطناعي.

وزير وسفير سوري سابق

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن