ثقافة وفن

25 عاماً على رحيل فاتح المدرّس … شكّل علامة فارقة في عالم الفن التشكيلي السوري المعاصر.. واختزل حقبة طويلة من التجربة اللونية والثقافية

| وائل العدس

لم يكن شخصية ثقافية بارزة على صعيد الفن التشكيلي فحسب، وإنما امتد تأثيره ليشمل صعداً ثقافية متعددة ومتنوعة، كالأدب والموسيقا وفلسفة اللون والضوء، وساهم في الدفع بالمشهد الثقافي بشكل متكامل نحو التجدد من ناحية، والتجذر في بيئته من ناحية أخرى، وهو أحد الفنانين العرب القلائل الذين بيعت لوحاتهم في مزادات الفن العالمية.

إنه الفنان التشكيلي والقاص والشاعر الراحل فاتح المدرّس الذي اكتسبت لوحاته مكانتها من شخصية مبدعها المفتونة بروح المغامرة في اقتحام عالم الذاكرة وتحرير مكنوناتها الدفينة بأداة فنية متوهجة، وبذلك استحق شهرته الواسعة ومكانته المرموقة في التشكيل السوري والعربي، فلا غرابة أن تصدر عن تجربته مجموعة من الكتب المصورة وعشرات الدراسات التي تعرض نتاجه، وتتحدث عن تجربته المتفردة، وقد قال عنه أدونيس: «لا نعت يليق بإبداع فاتح المدرّس، ويفصح عنه إلا الأسطوري».

كتب القصة والشعر، ومارس تقنية اللون على الكلمات، مستفيداً من عفويته وواقعيته في حرفية النص الأدبي، حيث الطبيعة والأسطورة ترافقانه على الدوام، وشكّل علامة فارقة في عالم الفن التشكيلي السوري المعاصر من خلال مدرسته الفنية التي جمعت بين عملية الغرب وروحانية الشرق وغاصت في تفاصيل البيئة والحياة السورية.

بدأ في أربعينيات القرن الماضي فناناً سريالياً، يشرح كل لوحة من أعماله بتعليق فلسفي أو أدبي، وهنا برز الجانب الأدبي في شخصيته المتوازنة مع الجانب الفني.

استمد ألوانه من حقول الشمال في حلب، وحظيت القرية والبيت العتيق على مكانة متقدمة في أعماله، فظهرت شديدة الاتصال بالطبيعة على اختلاف ألوانها الفطرية.

من أهم صفات لوحاته التجريد والتشخيص، وعدم الابتعاد عن الروح الشرقية، وعلى الرغم من الدراسة في أكاديميات غربية إلا أن الروح التي رسم بها بقيت تحمل عبقاً أصيلاً.

اختزل المدرّس حقبة طويلة من التجربة اللونية والثقافية حتى أصبح علامة فارقة في الفن الحديث، ذلك أن الرجل رسم التاريخ.. وتمسك بالجغرافيا مكوّناً حالة نادرة من الفرادة والتميز تستحق الوقوف والتأمل طويلاً.

النشأة والتعليم

ولد فاتح المدرّس عام 1922 في ريف حلب وسط بيئة فلاحية، وقد عاش مع والدته طفولة شقية محرومة متنقلاً بين عدة قرى عند أخواله بعد وفاة والده، ما ترك أثره في وجدانه وسلوكه الاجتماعي ونتاجه الفني والأدبي.

غادر حياة الريف وهو في الثامنة من عمره، ليقيم عند أعمامه بحي الفرافرة بحلب، لكنه فضّل لاحقاً الإقامة مع والدته في أحد البيوت البسيطة في حي باب النصر، وحين دخل المدرسة الابتدائية اكتشف أستاذ الرسم شريف بيرقدار موهبة الرسم لديه، واستيقظت ميوله نحو الموسيقا والشعر والقصة والرحلات.

وفي مدرسة التجهيز الأولى تعرّف إلى أساتذة الفنون منيب النقشبندي وغالب سالم ووهبي الحريري، وأخذ عنهم المبادئ المدرسية لفن الرسم والثقافة الفنية.

وفي مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، غادر حلب إلى لبنان ليتابع دراسته في الكلية الأميركية حيث درس اللغة الإنكليزية التي كانت وسيلته للاطلاع على الأدب والفن العالمي، بما في ذلك الاتجاهات الفنية الحديثة، وأخذ يتعرف على عدد من المثقفين اللبنانيين.

وحين عاد إلى حلب عمل مدرّساً للغة الإنكليزية والتربية الفنية في ثانويات حلب، وبدأت مشاركاته الفنية في الرسم تظهر إلى جانب عدد من الفنانين الرواد، كما ظهرت مساهماته الأدبية في الشعر والقصة التي كان ينشرها في الصحف والمجلات السورية.

كما تعززت علاقته بعدد من الشعراء والأدباء أمثال عمر أبو ريشة وأدونيس والمخرج سليم قطاية والناقد سلمان قطاية.

تابع المدرّس دراسته العليا في أكاديمية الفنون الجميلة في باريس، ونال الدكتوراه عام 1972، وعُين أستاذاً للدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1977، وكان عضواً مؤسساً في نقابة الفنون الجميلة في سورية، ثم رئيساً لها خلال أحد عشر عاماً.

الإبداع الفني

كانت لوحاته السريالية المعروضة في واجهات المكتبات في شارع بارون بحلب تستوقف المارة لأنها تحمل مفاهيم جديدة لم تكن معروفة آنذاك، وفي عام 1952 شارك في المعرض الرسمي الذي أقيم في دمشق إلى جانب أبرز الفنانين السوريين، ونال الجائزة الأولى في التصوير عن لوحته «كفر جنة» التي اعتبرها النقاد وقتئذ في طليعة الأعمال التصويرية في الفن السوري المعاصر.

وفي عام 1954 وضع المدرّس مؤلفاً من ثلاثة أجزاء عرض فيه «موجز تاريخ الفنون الجميلة» وكان ذلك مقدمة لإفادته للدراسة الفنية في أكاديمية روما عام 1956، وهناك التقى بالمفكر الفرنسي جان بول سارتر الذي ترجم له بعض قصائده إلى الفرنسية، كما التقى عدداً من المثقفين العرب والغربيين.

عاد إلى دمشق ليتخذ له مرسماً وسـط المدينة، ويُعين معيداً في كلية الفنون الجميلة بدمشق فور إحداثها عام 1961، وقد كان لقدومه إلى الكلية وقع خاص لدى تلاميذها الذين رؤوا فيه فاتحاً لعهد جديد في الفن السوري، حيث أخذ يحرر أذهانهم من المفاهيم التقليدية ويفتح أمامهم آفاقاً جديدة، تعتمد الحرية في التعبير واستخدام الأدوات والوسائل المستحدثة والمبتكرة، ما ترك أثره الواضح في جيل الفنانين الذين اختطوا لأنفسهم اتجاهات جديدة في المسار الإبداعي.

أما مرسمه فقد لعب دوراً مهماً في إغناء تجربته وغزارة إنتاجه وذيوع شهرته من خلال احتكاكه بالأوساط الثقافية والإعلامية، فقد كان خلوة للفنان يفرغ فيها ما تجود به قريحته، وسـرداباً يصل بين عالم الوعي الخارجي وعوالم الإبداع المدهشة بما فيه من ملامح وأدوات ومجالـس كانت موئلاً للعديد من الفنانين والأدباء والمثقفين والمريدين الذين سحرتهم عوالم المدرّس وطقوسه، وجرأته في فنه وحديثه.

أقام المدرّس عشرات المعارض الفردية في سورية والوطن العربي والعالم، منها معرض في روما إلى جانب الفنانين براك ميرو وشيندر وزادكين وبيكاسو وبومايستر عام 1972، وأقام كذلك معرضاً مشتركاً مع الفنان السوري لؤي كيالي في متحف حلب عام 1976، واقتنيت أعماله من قبل عدد من الشخصيات العربية والعالمية.

أعماله الأدبية

حفلت حياته بعدد من الأنشطة الأدبية إلى جانب نتاجـه التصويري الغزير، ففي عام 1962 أصدر ديوان «القمر الشرقي على شاطئ الغرب» باللغتين العربية والفرنسية، كما أخرجت السينما السورية ثلاث قصص له في ثلاثية بعنوان «العار» عام 1973، وصدرت له مجموعة قصصية بعنوان «عود النعنع» عام، 1981 وديوان «الزمن السيئ» مع صديقه حسـين راجي عام 1985.

وقد كانت كتاباته الشعرية تميل إلى السريالية، في حين كانت قصصه تحمل ملامح الواقعية النقدية.

نتاجه التصويري

كان نتاجه التصويري يتأرجح بين التجريد والتشخيص، فاللوحة عند المدرّس ترجمة آنية لمجمل معارفه وهمومه وهواجسه، وهي تخرج دفعة واحدة عبر شحنة انفعالية قوية، تتزاحم فيها الصور، وتتكاثف الرؤى، وتنهمر العواطف والمعارف مشكلة شلالاً من الأشكال والألوان التي تفصح عن موقف إنساني ممزوج غالباً بعناصر الطبيعة والحياة. وقد شكّلت البيئة الريفية التي عاشها في طفولته رافداً مهماً في مسيرته الإبداعية، بما في ذلك من مفاهيم شرقية وعقائد، وأساطير محلية ومفاهيم اجتماعيـة وإنسانية، باتت تشكّل مخزوناً كبيراً في ذاكرته التي تفاعلـت مع كل الثقافات المحلية والعالمية.

كما شكّلت القضايا الإنسانية والوطنية محاور إنتاجه، بما في ذلك القضية الفلسطينية ونكسة حزيران والحرب الأهلية في لبنان وغيرها من الأحداث القومية.

جوائز وتكريمات

نال الفنان الراحل الكثير من الجوائز والتكريمات، لعل أهمها وسام الاستحقاق السوري عام 2005.

ومن الجوائز التي نالها أيضاً نذكر: الجائزة الأولى لأكاديمية روما عام 1960، الميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي عام 1962، جائزة شـرف بينالي في ساوباولو في البرازيل عام 1963، جائزة الشراع الذهبي للفنانين العرب في الكويت عام 1977، جائزة الدولة للفنون الجميلة في الأردن عام 1992.

طابع واحتفالية

خلال عام 2022، أصدرت المؤسسة السورية للبريد طابعاً بريدياً تذكارياً بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الفنان التشكيلي فاتح المدرس.

وفي العام نفسه، احتفل الموسم الخامس لأيام الفن التشكيلي السوري في دار الأسد للثقافة والفنون، بمئوية الفنان الراحل تحت شعار «سبعون عاماً من الحداثة»، وهو إشارة إلى مرور سبعين عاماً على فوز لوحته «كفر جنة» بالجائزة الأولى في المعرض السنوي الثالث عام 1952، والتي تم اعتبارها بدايةً لتاريخ الحداثة في الفن التشكيلي السوري.

كما أقيمت حوله ندوة فنية وثقافية في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق شارك فيها الفنان التشكيلي الراحل د.عبد الكريم فرج والناقد سعد القاسم والأديب د.إسماعيل مروة، وقد صدرت أبحاث الندوة ضمن كتب ندوة الأربعاء الشهرية، إضافة إلى ألبوم ملون تولى إعداده والإشراف عليه سعد القاسم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن