قضايا وآراء

تجنيد الحريديم وسقوط أخطر أركان «دولة إسرائيل»

| علي إبراهيم

من المقرر أن تنطلق مع بداية شهر تموز عملية تجنيد اليهود المتدينين «الحريديم» في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد القرار الذي أصدرته المحكمة العليا في كيان الاحتلال، والذي وجه ضربة قوية للاتفاق الذي قامت عليه «دولة إسرائيل» عام 1948 على أرض فلسطين التاريخية والذي جمع أول رئيس حكومة لإسرائيل ديفيد بن غوريون والحاخامات المتشددين وعرف حينها باتفاق بن غوريون، وأرسى هذا الاتفاق القديم منذ نحو 80 عاماً قاعدة سار عليها الكيان تقضي بإعفاء ذكور الحريديم من الخدمة الإلزامية في الجيش بشكل كامل والتفرغ للدراسات الدينية على اعتبار أن هذا الكيان يقوم على أساس ديني بحت لا مثيل له في العالم والحفاظ على هؤلاء المتدينين جوهر هذه «الدولة» بما يبثونه من تعاليم وأفكار مخالفة للحقيقة حول أحقية قيام «دولة إسرائيل» والوعد الذي منحه اللـه لليهود بهذه الأرض وامتدادها الجغرافي وما إلى ذلك من خرافات يعملون على تثبيتها في حياة المستوطنين كي لا يذوبوا في المجتمع العربي كما ذابت عشرات المجتمعات التي وصلت إليه لأسباب مختلفة على مر الأزمنة.

هذا القانون الذي أقرته «المحكمة العليا الإسرائيلية» الأسبوع الماضي، وأكده المدعي العام في الكيان جالي باهاراف ميارا بالقول: «إلزام المؤسسة الدفاعية بتجنيد طلاب المدارس الدينية سيكون سارياً بالفعل اعتباراً من الأول من تموز»، اختار أكثر الأوقات صعوبة في تاريخ إسرائيل التي تقف حكومتها الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو على شفير الهاوية، حيث تعتمد هذه الحكومة الائتلافية بشكل كبير على الأحزاب الدينية المتشددة التي وافقت الاشتراك مع حزب الليكود لتشكيل ائتلاف حكومي، وعلى رأس هذه الأحزاب حزبا «شاس» و«يهدوت هتوراه» المتطرفان اللذان يمثلان مصالح الحاخامات والحريديم في الحكومة، وتقوم هذه المصالح أولاً على عدم خرق النسيج الديني الذي يعيشه الحريديم في قلب إسرائيل أو إجبار الذكور منهم على خلع الزي الديني المعروف ذو اللون الأسود والقبعة الطويلة وارتداء زي جيش الاحتلال أو الاختلاط بالنساء أو حرمانهم من الصلاة 3 مرات يومياً في الكنيس أو إجبارهم على القتال أو العمل يوم السبت المحرم لدى اليهود، ولما كانت المعارضة لهذه الحالة تشهد تنامياً وسط التيارات العلمانية في كيان الاحتلال وصلت الصدامات إلى حد إعلان المحكمة ذاتها عام 2018 قانون تجنيد الحريديم إلا أن هذا القانون أهمل وتم تناسيه من قبل حكومة نتنياهو منذ ذلك الحين بهدف عدم إثارة هذه الشريحة الخطيرة التي تمثل نحو 10 بالمئة من النسيج الاجتماعي الإسرائيلي، والتي إن أحست بخطر يداهمها قلبت الشارع إلى فوضى عارمة وتسببت بشلل كبير، غير أن الحرب التي يشهدها كيان الاحتلال والخسائر الهائلة في القوة البشرية على مختلف الجبهات، إضافة لفرار كثير من الإسرائيليين إلى دول أخرى، تسببت جميعها بنزيف في الجيش لا بد من ترميمه سريعاً وخاصة أن المقاومة الفلسطينية أثبتت قدرتها على الصمود وترتيب صفوفها من جديد في أي مدينة أو حي يضطر جيش الاحتلال للانسحاب منه في غزة لتستكمل أعمال الاستهداف واستدراج قوات الاحتلال إليه مرة أخرى وإيقاع الخسائر فيها، إضافة لإمكانية نشوب حرب على الجبهة اللبنانية وما يتطلبه ذلك من قوة تفوق كل ما أرسل لغزة خلال الأشهر التسعة الماضية، الأمر الذي أكده وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت بالقول قبل ساعات: «الجيش الإسرائيلي بحاجة إلى 10 آلاف جندي فوراً».

وعلى الرغم من أن عدد ذكور الحريديم الذين يدرسون في المدارس والمعاهد الدينية والمناسبين للخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال يصل إلى 63 ألفاً، فإن الخوف من زلزال داخلي أرغم المحكمة على تحديد العدد المطلوب للخدمة خلال عام 2024 الجاري بـ3 آلاف منهم فقط، لتظهر مشكلة جديدة وهي: على أي أساس سيتم انتقاء هؤلاء الآلاف الثلاثة؟ حيث توقعت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» اتباع إحدى طريقتين أولهما إجراء قرعة مع ما قد يحمله ذلك من متاعب في حال رسو القرعة على طلاب من «النخبة» والذين يعتبرهم الحاخامات حسب توصيف الصحيفة «جوهرة مجتمع الحريديم»، وأما الخيار الثاني إرسال طلبات الالتحاق للطلاب الأقل أهمية أو ما سمتهم الصحيفة «الحريديم المعاصرين»، الأمر الذي سيخلق حتماً شرخاً عميقاً في هذا المجتمع المتعصب المنغلق على نفسه، ما تسبب بردة فعل عنيفة سابقة لتطبيق القرار تمثلت بمواجهات دامية بين شرطة الاحتلال وذكور الحريديم الذين نزلوا الشوارع بالآلاف ورموا عناصر الشرطة بالحجارة والعصي، الأمر الذي يمكن أن يتطور إلى شكل أكثر عنفاً في حال ارتكاب وزارة الحرب خطأ من قبيل تجاوز العدد الـ3 آلاف الذي أقرته المحكمة، وخاصة أن وزير الحرب يوآف غالانت كان من أشد المعارضين لإعفاء الحريديم من الخدمة، أو اختيار القرعة كحل لاستدعاء الجنود.

قرار المحكمة العليا تضمن أيضاً تجميد الدعم المالي لأي معهد أو مدرسة دينية ترفض إرسال أبنائها للجيش إن تم اختيارهم، الأمر الذي يمكن أن يسبب عاصفة وقعها أشد على اعتبار أن هذه الكتلة البشرية الهائلة لا تقوم بأي عمل بل تعتمد بشكل كلي على ما تقدمه الحكومة من مال.

ويبدو أن أسباب تفسخ «دولة إسرائيل» ونهايتها تتجمع معاً في لحظات تاريخية واحدة، فمن فشلها وخسائرها في غزة، إلى خوفها من فتح جبهة لبنان، واتضاح صورتها الحقيقية للرأي العام العالمي، مروراً بقرارات الجنائية الدولية التي طالتها للمرة الأولى، وانهيارها الاقتصادي، وصولاً إلى تجاوز أحد أكثر خطوطها الحمر خطراً، أي العبث بالمؤسسة الدينية وما يعنيه الأمر من استهداف مباشر للحركة الصهيونية و«يهودية الدولة»، جميعها ملامح تقود للاقتناع بأن زوال هذا الكيان بات قريباً أكثر من أي وقت مضى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن