أولى المناظرات.. ترامب يتقدم
| عبد المنعم علي عيسى
ما انفكت النسج في بلاد «العم سام» تبدي، منذ مطلع هذه الألفية، استعدادها لاستيلاد كم هائل من الظواهر التي كانت في بعضها «مدهشة»، فيما البعض الآخر يمكن تصنيفه على أنه تعبير عن حال من التململ باتت تسيطر على تلك النسج فتدفع بها نحو رسم لوحات من الصعب أحيانا قراءتها إلا بتشريح يقول إنها ناتجة أصلاً عن نفسية «الرسام» المأزومة، وأزمة هذا الأخير تتعدى «الأمراض» البسيطة التي يسهل علاجها لترقى إلى مستويات الأمراض المستعصية التي من الصعب تحديد كم تحتاج من الوقت لكي تزول تماما.
في توقيت مبكر، وللأمر اعتباراته التي سوف تتضح في السياق، انعقدت أولى المناظرات الثلاث ما بين الرئيس الأميركي جو بايدن ومنافسه في انتخابات تشرين الثاني المقبلة دونالد ترامب، وعلى مدى تسعين دقيقة، هي المدة التي استغرقتها تلك المناظرة، كان الذهول الذي أصاب المتابع هو سيد الموقف، و«المنازلة» بدت كما لو أنها بين طرفين غير متكافئين، أحدهما بدا محاصرا بثقل العمر، فيما الآخر لا يتوانى عن استغلال ذلك عبر توجيه العديد من «اللكمات» وإن فضل في النهاية تأجيل «الضربة القاضية»، التي لربما كانت متاحة أمامه، إلى جولة أخرى كنوع من «إمتاع» المشاهدين.
لتسعين دقيقة تعثر بايدن في الحديث لثماني مرات على الأقل، وبدا وكأنه عاجز عن إيصال ما يريد حتى إن منافسه أجابه عن إحدى تلك العثرات بالقول: «أنا حقا لا أعرف ما الذي قاله في نهاية تلك الجملة، لا أعتقد أنه يعرف ما الذي قاله»، قبيل أن يدعوه للخضوع إلى «اختبار إدراكي»، وعندما قاربت المناظرة من نهايتها، ومدتها محددة ومعروفة مسبقا؛ بدا بايدن كمن أثخنته جراحه وهو يستعجل «صافرة الحكم» التي تكون في العادة إيذاناً بنهاية النزال، والراجح أن هذا المشهد سوف يغوص عميقا في ذات محازبيه أولاً، ثم في ذات عموم الأميركيين الذين لا يحبون لساكن بيتهم الأبيض أن يكون ضعيفا، والشاهد هو أن الأميركيين، كانوا قد اختاروا شعارهم على هيئة نسر يقبض ما بين رجليه على رزم الصواريخ القادرة للوصول إلى بقعة تريدها في هذا العالم، لكن مشهد بايدن المثخن بجراحه لم يكن هو الوحيد الذي رصدته الكاميرات غداة إطلاق الحكم لصافرة النهاية، فما كرسته الدقائق التسعون يشي بمزيد من الانقسام بين الأميركيين، والمؤكد هو أن هذا الفعل الأخير سوف يتنامى ويتنامى ليصل إلى درجات غير مسبوقة لاعتبارات لها علاقة برفض السطح السياسي الأميركي الاعتراف بالمتغيرات الحاصلة في العالم، الأمر الذي يدفع في غالب الأحيان لانتهاج سياسات من الصعب تحميلها على واقع، مجتمع وتركيبة سياسية، لم يعد قادرا على احتوائها أو استيعابها، ولربما كان شعار «أميركا أولاً»، الذي ساد زمن دونالد ترامب وإن لم يكن هذا الأخير أول من أطلقه، مثالاً صارخاً عن تلك الحالة، وهو يعكس لحال التعب الأميركية التي انحنى عمودها الفقري بفعل الحمولات التي يفرضها شعار «عادت أميركا» الذي سرى على لسان بايدن مطلع ولايته، ومن الواضح هنا أن ثمة افتراقات منهجية كبرى ما بين الشعارين، وتحت تلك الافتراقات، هناك سيل من التباينات التي تفرضها حالة الافتراق سابقة الذكر.
سجلت المناظرة طغيانا تاما للقضايا الخارجية على نظيرتها الداخلية، ولربما كان الفعل نتاجا طبيعيا لتورط الولايات المتحدة بشكل مباشر في حربي أوكرانيا وغزة اللتين ستلعبان، عبر النتائج المستحصلة منهما، الدور الأهم في تحديد الثقل الذي ستحظى به واشنطن للفترة القريبة المقبلة، ناهيك عن التأثيرات التي راح الحربان يراكمانها على الداخل الأميركي جراء التطورات التي اتخذاها، وما كان جليا في المناظرة هو أن ثمة اختلافاً كبيراً فيما بين المتناظرين حول السياسات التي من شأنها أن تعيد للمجتمع الأميركي تماسكه، وتعيد للولايات المتحدة دورها المفقود منذ ما يزيد النصف عقد.
نشرت «نيويورك تايمز» في أعقاب نهاية المناظرة تقريرا مفاده أن عددا من الديمقراطيين المؤيدين للرئيس جو بايدن بدؤوا بتبادل المكالمات الهاتفية حول «الحال التي ظهر عليها الرئيس»، ويضيف التقرير أن البعض من هؤلاء لجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن «صدمته مما رآه»، ثم يختم التقرير بالقول إن «الرئيس على وشك مواجهة موجة متصاعدة من الدعوات إلى التنحي»، والراجح هنا إن هؤلاء، بمن فيهم «نيويورك تايمز»، قرروا رمي «كرة» ثم مراقبة تسارعها حيث المعادلة الناظمة لهذا الفعل الأخير متعددة المجاهيل، فسيناريو استبدال بايدن محفوف بالعديد من المخاطر، ناهيك عن أن البدائل، التي أشارت تقارير إلى إمكان أن تكون نائبة الرئيس أحدها، فيما أشارت أخرى إلى إمكان أن تصبح زوجة الرئيس بديلا، من الصعب عليها خلال الفترة القصيرة، التي تفصل البلاد عن الانتخابات، أن تشكل حالة قادرة على وقف هذا الجموح الذي راح يبديه ترامب من خلال سعيه للوصول إلى المنصب الذي فقده قبل نحو أربع سنوات.
ترامب يتقدم وقائمة الذين دخلوا مرحلة حبس الأنفاس تطول، واللافت في الأمر أن تلك القائمة تحتوي على كم من الحلفاء يفوق نظيره من الخصوم، وفي الذروة من هؤلاء «ناتو» كمؤسسة وأعضاء، ثم الأوكران ومعهم بعض الحلفاء في المنطقة، دولا وكيانات، وصولاً إلى «الأمم المتحدة» التي قد تستنفد فرص ديمومتها مع رئيس له رؤيته التي لا تتسق كثيراً مع ميثاقها الذي قامت عليه قبيل نحو ثمانية عقود.
كاتب سوري