تغيير في المواقف أم حساب في الربح والخسارة؟
| منذر عيد
ربما وجد البعض في تصريحات رئيس الإدارة التركية رجب طيب أردوغان يوم الجمعة الماضي إزاء تطبيع العلاقات التركية مع سورية، تغيراً كبيراً في الخطاب والسياسة التركية، وبدأ البعض في البحث حتى بين كلمات أردوغان ليتوقف أحدهم عند كلمة الأخ والسيد في مخاطبة أردوغان للرئيس بشار الأسد، لكن قراءات البعض الآخر جاءت بخلاف دهشة سابقيهم من الخطاب التركي الجديد تجاه سورية، ليؤكدوا أن أردوغان لطالما استغل جميع الظروف الدولية والإقليمية سابقاً للعب دور رئيس في المنطقة من القوقاز إلى سورية إلى اليمن وليبيا، لم يكن ليغفل التطورات الجديدة، والانفتاح العربي والبعض الغربي على دمشق، ولم يكن ليغرد منفرداً خارج السرب وهو الساعي إلى تمتين علاقاته مع العرب خاصة دول الخليج، حيث عينه على تبادل اقتصادي يدر على خزينته الاقتصادية، التي تشهد نوعاً من الانكماش والشح، تبادل قد يخرج وضعه الاقتصادي الصعب من عنق الزجاجة.
بخلاف الدهشة والتحليل من وفي موقف أردوغان، فإن ثمة العديد من الأسئلة تطفو على السطح وبشكل تلقائي دون الحاجة إلى الكثير من العناء، هل من السهولة والسلاسة عودة العلاقات السورية التركية إلى ما كانت عليه لمجرد إعلان رغبة البلدين في ذلك، وماذا بشأن عشرات آلاف المسلحين والإرهابيين، وربما أكثر، الذين زرعتهم إدارة أردوغان في إدلب وريف حلب الشمالي الشرقي، وهل بمقدور أنقرة هدم قلعة الإرهاب في تلك المناطق بالسهولة ذاتها التي قامت ببنائها إرهابياً بجانب إرهابي، وماذا بشأن عقدة الاحتلال التركي وعلاقته مع «الإدارة الذاتية»، وهل ما استجد في خطاب أردوغان نابع من مبدأ الضرورة أم حسابات الربح والخسارة؟
مما انتهى من أسئلة نقول، في مواجهة ما يمكن أن يلحق الأمن القومي التركي من خطر، وفي حسابات الربح الاقتصادي الذي يمكن أن تجنيه تركيا من خلال علاقات ودية مع سورية، فإن كل ذلك دفع أردوغان إلى تلمس الطريق إلى دمشق مجدداً، بعد أن عمل منذ بدء الحرب الإرهابية الكونية على سورية على تفخيخ تلك الطريق بشتى أنواع المتفجرات.
من المؤكد أن إعلان ما تسمى «الإدارة الذاتية» الكردية عن نيتها إقامة «انتخابات محلية»، وما يمكن أن يشكله ذاك «الكيان» الانفصالي الموجود على حدود تركيا الجنوبية من خطر إستراتيجي على الأمن القومي التركي، شكل سبباً رئيساً في إعادة أنقرة لحساباتها، ويقينها أن التنسيق المشترك الأمني والعسكري سوف يلجم خطر أي حركة انفصالية في سورية، ويمنعها من التمدد شمالاً، خاصة مع وجود ملايين الكرد الأتراك داخل تركيا.
وفي الحسابات الاقتصادية، فإن أردوغان يعي جيداً حجم الفاتورة التي يسببها وجود اللاجئين السوريين على أراضي بلاده، وخاصة أن ملف اللاجئين أصبح يشكل ثقلاً على الحكومة التركية التي باتت عاجزة عن الخروج من تحت وطأة هذا الملف، مع استمرار الضغوط الشعبية والمعارضة وحتى الموالين لحزب العدالة والتنمية الحاكم، هذا إضافة إلى أن الجغرافيا السورية تشكل بالنسبة للاقتصاد التركي بوابة رئيسية، وطريقاً مختصراً بين أنقرة ودول الخليج العربي، والتي يسعى أردوغان إلى بناء شراكة اقتصادية عالية معها، إضافة إلى مساعيه بأن تكون بلاده إحدى المحطات الرئيسة على الطريق التجاري بين الخليج العربي وأوروبا، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت دمشق المحطة الأولى على ذاك الطريق، وعليه فإن أردوغان يطمح لأن تكون مكاسبه الاقتصادية مع التعامل مع الخليج رافعة تنقذ مستقبله السياسي من الذهاب إلى حافة الهاوية، في ظل جملة من الانتقادات التي يواجهها على المستوى الشعبي ومن معارضيه.
تؤكد جميع المعطيات، وتاريخ الإدارة التركية السابق منذ بدء الأزمة في سورية، أن أردوغان يتجه إلى انتزاع دور يكرس حضوره كلاعب أساسي للمرحلة المقبلة، وسورية البقعة الجغرافية الأكثر ملاءمة للقيام بذلك بالتوازي مع دعم إقليمي ودولي عبر العراق وروسيا والصين وإيران، وهذا ما يؤكده كلام مدير مركز الدراسات الفكرية في اسطنبول باكير أتاجان، المقرب من الإدارة التركية لقناة «سكاي نيوز» بقوله: «الرئيس أردوغان مستعد للقاء الرئيس الأسد في أي مكان يريده حتى لو كان في دمشق، أردوغان منذ 2018 وهو يرسل الإشارات للرئيس الأسد أنه مستعد للحوار، لكن هنالك دولاً وأطرافاً ثالثة لا تريد هذا التقارب، الرئيس التركي ووزير الخارجية ووزير الدفاع أكدوا مراراً وتكراراً أن لا أطماع لدينا بالأراضي السورية ومسألة الانسحاب التركي من سورية لا مشكلة فيها لكن يجب أولاً الجلوس والاتفاق على بعض الأمور التي تهم الأمن القومي للبلدين».
لا أحد ينكر أن عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق إلى سابق عهدها سوف يعزز من أمن المنطقة، ولطالما أعلنت دمشق حرصها الدائم على إقامة أفضل العلاقات مع الشعب التركي، حيث عملت دائماً على التمييز بين الشعب والإدارة، مع تأكيدها مراراً وتكراراً، أن ألف باء أي حوار مع أنقرة يقوم على إعلانها صراحة الانسحاب من الأراضي السورية التي تحتلها، الأمر الذي أكد عليه الرئيس بشار الأسد خلال لقائه المبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف في السادس والعشرين من الشهر المنصرم بانفتاح سورية على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سورية وتركيا والمستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى، ليبقى السؤال الأهم: كم ستحاج أنقرة من وقت لإعادة ما عملت على تغييره في إدلب وريف حلب طوال ثلاثة عشر عاماً؟