من دفتر الوطن

عن الإنسان وحمار بوريدان

| حسن م. يوسف

ثمة ظاهرة بدأت تتفاقم منذ سنوات في دوائرنا ومؤسساتنا المعنية بقضايا المواطنين، هذه الظاهرة هي «ترقيد المعاملات في الأدراج» إذ يندر أن تسير أي معاملة بسلاسة ما لم يقم صاحبها بتزييت مفصلات باب المدير المعني بالأمر أو تشحيم أحد أدراج مكتبه. مما يخلق حالة من الشلل النسبي تذكرني بقصة حمار بوريدان التي تنسب للفيلسوف الفرنسي جان بوريدان الذي عاش في القرن الرابع عشر في الفترة الممتدة بين (1300-1358).

وُلد جان بوريدان في بيتري في شمال فرنسا وتلقى تعليمه في جامعة السوربون في باريس. لم يكن بوريدان مهتماً بالفلسفة وحسب بل كان مهتماً بعدة مجالات أخرى قد تبدو متناقضة هي اللاهوت والفيزياء والرياضيات.

ورغم دراسته اللاهوت لم يلتحق بوريدان بالكنيسة بل حافظ على استقلاله الفكري، وتوصل لاستنتاجات رائدة إذ قال إن حركة النجوم تحكمها نفس القوانين الآلية التي تتحكم بحركة الأرض. وعلل دوران الأرض اليومي حول الشمس، كما نسف أسس علم الفلك القديم وحدد مسار الأجرام السماوية وحركاتها. وكان له فضل السبق على غاليليو وديكارت ونيوتن. كما مهد الطريق لمؤسس علم الفلك الحديث كوبرنيكوس الذي صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها.

أمضى بوريدان حياته مدرساً في كلية الآداب بجامعة باريس، مركزاً في دروسه على المنطق وأعمال أرسطو. لم يكن مقرباً من السلطات الدينية أو الدنيوية، ففي عام 1473 أصدر لويس الحادي عشر ملك فرنسا، مرسوماً يحظر قراءة أعماله. لكن بوريدان كان محبوباً من قبل الناس ويتمتع بسمعة طيبة. ويقال إن ملك فرنسا أمر بإعدامه، إذ وضعه في كيس وألقى به في نهر السين لأن الملك شك بوجود علاقة بين بوريدان والملكة.

يقال إن بوريدان وضع العديد من المؤلفات القيمة، إلا أنه لم يشتهر إلا بقصة حماره، والطريف أنها ليست قصة حمار حقيقي بل هي قصة رمزية تنطوي على مفارقة فلسفية.

يتخيل بوريدان في مفارقته حمار يقف بين كومة من القش ووعاء من الماء وهو يعاني الجوع والعطش بالقدر نفسه، لذا فهو يقف موزعاً بين رغبته في الأكل ورغبته في الشرب. وبسبب التعادل التام بين دوافعه، لا يستطيع اتخاذ قرار، فيصاب بالشلل الناجم عن الاستغراق في التحليل ويتجمد في مكانه إلى أن يموت من الجوع والعطش.

أراد بوريدان من خلال هذه المفارقة الرمزية أن يعري حالة الشلل التي يصاب بها الفرد والمجتمع عندما يجد نفسه أمام خيارات متشابهة للغاية، مما يجعل الفرد أو المجتمع يضيع الوقت، ويعجز عن اتخاذ أي قرار. وقد طمح بوريدان من خلال هذه المفارقة لأن يقول إن العيش مع بعض الندم أفضل بكثير من الشلل المميت، فالتسويف قد يكون أكثر ضرراً من القرار الخاطئ، وعدم اتخاذ قرار خوفاً من الوقوع في الخطأ قد يكون أكبر من أي خطأ يمكن الوقوع فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن