هل تعود النُّخبُ المثقفة إلى رشدها؟ … النخب لم ينتخبها أحد وإنما وصلت نتيجة زيفها ونفاقها
| محمد الحوراني
هل أخطأ علي حرب بحديثه عن وهم النخبة المثقفة عندما سعت لتنصيب نفسها لتكون وصيٍّة على الحرية والثورة، أو رسولاً للحقيقة والهداية وقائداً للدولة والمجتمع؟ ألم يكن مصيباً في دعوته لهم للتواضع والتمثّلِ بأخلاق العظماء، لأنهم ليسوا نخبة المجتمع أو صفوة الأمة، وإنما هم أصحاب مهنة كسائر الناس ولا أفضليّة لهم على سواهم؟ ألم يصل حال النخبة، ولاسيما المثقفة، إلى حدٍّ باتت أعجز فيه من أن تقوم بتنوير النّاس، لأنها هي من يحتاج إلى التنوير بنقد دورها وتفكيك خطابها المغرق في التعقيد والنرجسية؟ أليست النخب بأمسِّ الحاجة لتفكيك الأوهام التي تستوطن عقولها حول الهوية والحرية والحداثة والحقيقة، فضلاً عن مفهوم النخبة نفسه، ولاسيما أن هذه الأوهام تشكل عوائق تَحُول دون إسهام المثقف، والمفكر على وجه التحديد، على نحو مثمر وفعّال، سواءٌ في تشكيل المشهد الفكري أو في تغيير الواقع الاجتماعي والثقافي؟ ما يطرحه علي حرب في «أوهام النخبة» من أسئلة مهمة وواقعية بأمسّ الحاجة إلى إجابات مقنعة، تكون بحجم ما طرحه، رغبة منه في حثِّ المثقف على استعادة مكانته وأهميته فـ «المثقف أخفق إخفاقاً ذريعاً، حينما أوكل لنفسه مهمةً رسولية نضالية، أي عندما تبنى مهمة الدفاع عن الحريات وحقوق الناس، والقيم العامة والأخلاق، والهوية والأمة، وحين طالب بالوحدة، والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، والديمقراطية، وقد ازدادت الأمور سوءاً بفضله، فلا الوحدة والاجتماع تحققا، بل تعمَّقت التجزئة والقطرية، ولا يزال الظلم الاجتماعي والفقر والتهميش والاستبداد، بل اتسعت الفوارق الطبقية والهوة بين الأغنياء والفقراء، ما يعكس إخفاق المثقف، وعدم فهمه للواقع والطبيعة البشرية ومجرى الأحداث، وما أدى إلى شعوره بالخيبة واليأس والعزلة والغربة عن المجتمع، والهامشية.. فلم يعودوا طليعةً أو نخبةً، ولم تعد الجماهير مادةً بيدهم، وآلة لمشاريعهم وأفكارهم، حين اكتشفت هشاشتهم وفشلهم».
مسؤولية من؟
لقد حاول البعض إيهامنا بأن الحاكم هو أُسُّ الفساد وسبب نكبات المجتمع ومعاناته، ومع أن الحاكم، كَبُرَ أم صَغُرَ، يتحمل جزءاً من المسؤولية عن رداءة الواقع ومأساوية الحال الذي يعيشها شعبه، إلا أن النُّخبَ، ولاسيما المثقفة، تحمل الجزء الأكبر من المسؤولية، وتتحمل الوِزْرَ الأعظم للحال الذي آلت إليه المجتمعات التي اعتقدت في يوم من الأيام أن هذه النُّخبَ هي التي تبصّرها بحقيقة الواقع والمخاطر المحدقة بها، وهي التي يجب أن تنقل معاناتها ورداءة حالها إلى الحاكم، ولاسيما أنه يفترض فيها، أن تكون صلة الوصل بين الحاكم وشعبه، وأن تكون المعبّرَ الحقيقي والصادق عن معاناة الأمة. ولكن هل كان المثقف العربي كذلك؟ وهل نقل للحاكم مرارة الواقع الذي يعيشه شعبه؟ أم تُراه عمل على تضليله وتعميته عن الواقع ليحقق هو المكاسب ويحوز على المنافع؟ مكرّساً بذلك حالة النخر والفساد المستشري في شتّى مناحي الحياة، رغبة منه في افتعال مشكلات مستقبلية يكون فيها هو المستفيد الأول والأكبر؟ صحيح أن الواقع السياسي العربي فاسد ومنخور حتى العظم، وصحيح أن الحكام والسلاطين والوزراء والأمراء الفاسدين، هم من عمل على إفساده وتقويض أركانه، إلا أن البطانة الفاسدة، ولاسيما المثقفة، ممن تعتبر نفسها المنظّرة والمفكّرة، هي من يتحمل المسؤولية الأكبر نتيجة نفاقها ودجلها، وتخليها عن كل ما هو أخلاقي وقيمي، وهي نُخبٌ لم تُنتخب من قبل أحدٍ، وإنما وصلت إلى ما وصلت إليه نتيجة نفاقها وزيفها وانتهازيتها، وصنعت حولها هالات من الأوهـام والخرافات والأساطير عن عبقريتها، لدرجة أنها، أوهمت البعضَ، أنها لم تقع في خطأ واحد طيلة تاريخها، رغم الهزائم والفشل واستمرار السقوط في الحفر، التي مازالت الأمة تعاني منها نتيجة نُخبها الفاسدة والمزيفة.
من النخب المنتفعة؟
وما نقصده هنا بالنخبة العربية المعنية بالتغيير هم الكتاب والشعراء والصحفيون وأساتذة الجامعات والمحامون والأطباء والمهندسون، وبشكل أوسع كل «المثقفين» والمفكرين وأهل العلم والمعرفة من المهتمين بقضية التغيير. إن من أولويات النخبة المثقفة في مجتمع ما صناعة الأفكار، وحراسة المكتسبات من الضياع، ومحاربة الفساد، والدفاع عن المصلحة العامة للناس، وكشف الأخطار المحدقة بالأوطان. وفي حالتنا العربية يحتاج المجتمع إلى دور حقيقي للنخبة المثقفة للمساعدة في الخروج من حالة التخلف والاستبداد، وتحقيق مجتمع العدالة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير والمساواة. كما أن الدور الإستراتيجي، الذي ينبغي أن تقوم به النخبة في مجتمعنا، هو خلق الوعي، وتعميم المعرفة في الوسط الاجتماعي، لأنه لا يمكن للمجتمع أن يمارس دوره، ويقوم بواجباته، ويتجاوز عقباته، وينتصر على مشاكله إلا بالوعي، فهو البوابة الحيوية لكل ذلك. وإذا كانت النخب المثقفة التي تشكلت منذ نهاية القرن التاسع عشر، قد اتُهمت، من البعض، بالقنوط واليأس والخجل من تاريخها وعدم الجرأة على مساءلته، بل التخاذل عن مقارعة الاستبداد الفكري والأصولي ومواجهة الموجات التكفيرية، فبماذا يمكننا وصف نُخبنا الثقافية في الوقت الراهن، وهي التي أخلت، أو كادت، الساحة الثقافية من أي فعل مؤثر، وعملت على قتل الذوق والفكر، أو أفسدته على أقل تقدير؟ كما أنها عمدت إلى رعاية الخوف وإغراق المجتمع فيه، ورمت بـ«مستقبل البشر» إلى زوايا العتمة والتداعي. هذا إضافة إلى تخليها عن مسارها ودورها الحقيقي في عملية الإصلاح والنهوض بالمجتمع؛ فأُصيب مَنشأ الصدق فيها، ومنبعُ التفردِّ والثقة من قلوبها بعامل التماطل والتراخي؛ فاستقر الانحلال والتفسُّخ والإفلاس فيها، سواء في المجال المادي أو العمَلي أو الأخلاقي. كما أن نُخبنا لم تحاولِ الخروج من قفص النرجسية الفكرية بكل ما يحمله من تسطيح في قراءة الواقع، ومن انطواء غير مبرّر على التجربة الذاتية، ومن إشكالات التعصب الأعمى للأفكار حيناً ولأشياء أخرى أحياناً كثيرة.
لم يحرك ساكناً!
وفي ظل حالة الاحتقان الشديد التي يعرفها العالم العربي اليوم، نلاحظ أن المثقف العربي لم يحرك ساكناً إزاء كل هذا الخراب، كما أن معظمهم أخفق في إخراج نفسه ومحيطه من تبعات الاستقطاب الإيديولوجي والطائفي، وكثيراً ما غاب الحس الوطني والإنساني أيضاً عن هذه النخب في خطابها مع الناس، وهي التي صنعها الإعلام الموجه في غفلة من الزمن لتشهرَ بعد ذلك أحقادها العمياء وخلفياتها المشبوهة في وجوه الملايين المكلومة من أبناء أمتها. هذا فضلاً عن أن النخب العربية لا تمثل كتلة متماسكة، ولا تعكس مفهوماً موحّداً يضمُّ مجموعة من السياسيين والناشطين والنقاد والحقوقيين والمثقفين المنضوين في طبقة اجتماعية مستقلة عن بقية الطبقات، وإنما هي شريحة عريضة مترامية الأطراف، وتتميز بالتنافر وتمثل مصالح متضاربة لفئات طبقية متصارعة، وثمة صراعات، قد تكون دموية أحياناً، بين نخب تقليدية وأخرى تحديثية، وبين انتيلجنسيا مدينية وشريحة ريفية مثقفة، وبين صفوة دينية تراثية وطليعة سياسية علمانية. إننا، مع الأسف، أمام نخبٍ تسعى إلى تأييد التخلف الاجتماعي وتأبيده، وتجنيد التوتر السياسي وتفعيله، وتوطيد التأخر الاقتصادي وتمكينه، وتجميد الحراك الثقافي وتدميره، وتخليد السكون المعرفي وتأصيله، وتسيّيد الجهل المعرفي وتعميقه. أنها نخبة حسمت أمرها واتخذت تدابيرها حيال الشرائح المثقفة، والفئات المتعلمة، من أجل تهميش دورها رغم ضعفه، وتقليص نفوذها رغم هزالته، وتحجيم تأثيرها رغم ضحالته. أن ركون المثقف واستسلامه للواقع من دون العمل على تغييره، أو تورط بعض النخب في ماكينة الفساد، يعتبر من أكثر الأمراض شيوعاً، وهو الأخطر على الإطلاق، لأنه يعطي المبرر لعامة الناس لسلوك الطريق نفسه، مادامت نخبهم، والمثال الأعلى لهم قد باع ثقافته وعلمه ومعرفته مقابل بعض الامتيازات، أو بعض المنح والهدايا، أو مقابل منصب أو راتب.
التحول عن المبادئ الأصيلة
ويؤكد عبدالإله بلقزيز أن هناك مجموعة من «النخبة المثقفة» قد تحولت عن مبادئها الأصيلة لجعل الثقافة متوائمة مع حالة الفساد العام، سواء السياسي أو الإداري أو الاجتماعي• وتهدف هذه المليشيات المثقفة إلى تحويل مسار العمل الثقافي الملتزم وتطويعه، ليكون الفعل الثقافي بعيداً عن الأهداف والأسس القويمة، رغبة في احتوائه وتلويثه، تمهيداً لخلق مليشيات ثقافية فاسدة، بعد أن تتلاشى النخب وتصبح هزيلة فارغة غير قادرة على القيام بأي فعل ثقافي أو معرفي مؤثر. إننا، مع الأسف، أمام نُخبٍ انتهازية تلهث وراء مصلحتها الخاصة بعيداً عن المصلحة العامة للأمة، حتى وإن أكلت النار أهلها، نخبةٍ سرعان ما تتخلى عن شعاراتها وتنظيراتها التي نخرت عقولنا وأفسدت أفكارنا فيها، نُخبٍ سرعان ما يخلع فيها العلماني قبعته الثقافية ويلبس بدلاً منها عمامته الطائفية ليصطّف في خندق أسلافه الإرهابيين التكفيريين، بعدما تذكر، فجأة، أصوله اللاهوتية دون سابق إنذار. ولعلّ هذا ما أفقد النُّخَبَ خصوصيتها ومكانتها عند الناس وعند قاعدتها الشعبية، ذلك أن هذه القاعدة الشعبية اعتقدت أنه لا يمكن لنخبة مثقّفة أن تشحذ الحلول من رجل السّياسة ولا من غيره، ولا من الشّعب الذي تدّعي أنها «تفكّر» نيابة عنه، فالقاعدة الشعبية والجماهيرية ترى أن المثقّف هو «حلاّل مشاكل»، كما يقول الطّاهر لبيب. ووظيفة النّخبة المثقّفة الحقيقيّة هي السّهر على أن تظلّ الرّوح النّقديّة حيّة وعلى استعداد دائم لنقد السّلطة والمجتمع. والنخب المثقفة لا تستند إلى مركزها السّياسيّ أو الاجتماعيّ، بقدر استنادها إلى حسّها النقدي ورهافتها المعرفية. إننا بأمسِّ الحاجة لعودة النخب الثقافية والمعرفية إلى رشدها، لتمارس دَوْرها في التوعية والمبادرة والتوجيه وتتخلى عن دور المتفرج، بل المشارك أحياناً، في المأساة والمعاناة التي تتعرض لها أمتها وتكتفي بنفخ بطونها وجيوبها.