المناظرة الرئاسية الأميركية الكارثة
| د. قحطان السيوفي
بعد المناظرة الرئاسية الأميركية الأولى، بات الديمقراطيون في ورطة، لأنَّ حصانَهم يبدو خاسراً، فقد خرجَ الرئيس جو بايدن من المناظرة مع دونالد ترامب جريحاً، خانَه العمر، وفشلَ في لعبِ دور الهداف، وفي دورِ المدافع، ويبدو أنه لا يمكن تسليم مفاتيحِ البيت الأبيض لرجلٍ يعجز عن استدعاءِ ذاكرته.
المناظرة كانت بين رئيس متهوّر، خارج على السلوكيات العامة، ورئيس ضعيف الذاكرة، ويقود أميركا خلال مرحلة من أسوأ أزماتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، فجاء مشهد المناظرة غير مسبوق في التاريخ الأميركي.
وعلى مدى سبعين عاماً باتت «المناظرة» بين المرشحين للحزبين الديمقراطي والجمهوري نوعاً من الطقوس التقليدية التي تعلن فيها أميركا للعالم أنها دولة ديمقراطية، كانت المناظرة بين خصمين عاريين من سمات صحة الإنسان.
بايدن له من العمر 81 عاماً، بدت عليه أعراض السن من تلعثم ونسيان وضعف التحكم في الحركة، أما ترامب ورغم أنه بلغ الـ78 عاماً، فقد كان متحكماً في نوازعه، ودخل المناظرة بعد إدانته في 34 جُنحة.
إنها المرة الأولى في التاريخ التي يظهر فيها أحد طرفي المناظرة الرئاسية الأميركية، ونقصد بايدن، وكأنه «فزّاعة الطيور»، فهو شبه جامدٍ ومتلعثم ومتردد وواجم في بعض الأحيان، وهو ما جعل قيادات في الحزب الديمقراطي تصف المناظرة بـ«الكارثة» وتسعى لإيجاد بديلٍ من بايدن.
بدا الرئيس الأميركي في المناظرة كحصانٍ أصيب بعطبٍ عميق قبل الشوطِ الأخير، نصحته «نيويورك تايمز» بالخروجِ من السباق، لم يخفِ أعضاء في الحزب الديمقراطي قناعتَهم بضرورة استبداله لتفادي هزيمةٍ محققة، كان بايدن في المناظرة يدعو للرثاء وتشفق عليه لكثرة ما نفخوا في روحه كي يصمد 90 دقيقة.
مناصرو بايدن، أرسلوه مباشرةً بعد المناظرة، في الليلة نفسها، رغم الهزيمة إلى مدينة رالي، في ولاية كارولاينا ليلاً، ليقود حملته الانتخابية، في الصباح وضع بايدن كان سيئاً إلى درجةِ أن باراك أوباما همس لحلفائه بالتراجع والتخلّص من بايدن، قائلاً: لقد كانت المناظرةُ سيئة.
بعض المراقبين يرون أن هناك صراعاً داخل المعسكر الديمقراطي، فهل كانت المناظرة «مؤامرة» لفضحِه والتخلص منه، تقول مجلة «تايم» إن بايدن حَظِيَ بكل ما يمكن ليستعد للمناظرة، لكن قدراته لم تسعفه لتجهيزه للمناظرة، نقل إلى الاستراحة الرئاسية، كامب ديفيد لمدة ستة أيام، وأجروا له بروفةً كاملة للمناظرة.
مع هذا كان واضحاً أنه فاقدٌ للذاكرة، ومنهكٌ أداؤه، لم يكن فقط مخيباً لآمال الديمقراطيين فحسب، بل أشعل حريقاً في أروقة الحزب.
بعض الديمقراطيين يراهنون على أن جو بايدن ولو على جهاز تنفس اصطناعي قد يفوز ضد ترامب الذي، وحسب القانون، هو أول مرشحٍ مدان بجرائم في تاريخ أميركا.
بالمقابل فإن ترامب يعاني سياسياً من ضعف أساسي، وهو عدم قدرته على التواصل مع الأميركيين الذين ليسوا بالفعل من مؤيديه المتحمسين، وترامب حرض على أحداث 6 كانون الثاني 2020 لمنع الكونغرس من التصديق على نتائج الانتخابات.
وفي مواجهة الأحكام التي صدرت عن المحاكم الأميركية على مهاجمي الكونغرس، فإن ترامب أبدى استعداده للتعرض للسلطة القضائية الأميركية سلباً بالعفو عن المهاجمين في حال توليه الرئاسة.
المراقبون يرون أن الضعف بالنسبة لترامب الشعبوي هو افتقاره للمفردات والقدرة على بناء سردية وطنية تجذب خيال الناخبين الجدد إلى جانب قاعدته الثابتة.
منذ خرج الرئيس ترامب من البيت الأبيض في نهاية 2020 وهو يخوض معاركه، وما زال، على كل الجبهات، القضاء والميديا!
في فترة دونالد ترامب اشتبك الرئيس وأهان العلاقة مع حلف الـ«ناتو» حين تصرف معه بوصفه مقاولاً يختلف على التسعيرة والتكاليف، وفي الشرق الأوسط أعلن صفقة، سميت «صفقة القرن»، لم تكن محاولة لحل قضية دولية كبرى، بل كانت صباً للزيت على النار، لإثبات صهيونيته ودعماً لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وسخاءً في تقديم الهبات له من جيوب الفلسطينيين والسوريين؛ إذ وافق على قرار إسرائيل الجائر بضم الجولان والقدس وأكثر من ثلث أراضي الضفة الغربية.
مسلسلُ الانتخابات يعكس الوضعَ السياسي المنقسمَ على نفسه في الولايات المتحدة، ووجود الاثنين، بايدن وترامب، زاد البلادَ انقساماً.
حتى الحزبُ الجمهوري ليس راضياً عن ترامب، يخافُه ويحتاجُه ومضطرٌ لدعمه في المقابل، كان ترامب في المناظرة كالذئب الجريح، معظم المراقبين يرون أن ترامب ترك قادة الحزب الديمقراطي في ريبةٍ وارتباكٍ وتشتتٍ بين الاستمرار في دعم الرئيس الحالي بايدن، والتفتيش في مدة قصيرة جداً عن بديلٍ له.
واقعياً كانت المناظرة شاهداً على ما تبقى من ظلال للإمبراطورية الأميركية، والمناظرة كانت الأسوأ منذ بدأت المناظرات الأميركية العلنية المتلفزة؛ أي مناظرة كيندي وريتشارد نيكسون عام 1960؛ لذلك حزن الأميركيون لأنهم شاهدوا مدى تدهور مستوى الأحزاب السياسية المتحكمة في حياتهم.
في المناظرة الأساس في التهم المتبادلة؛ صحة بايدن البدنية، وصحة ترامب النفسية، والمناظرة كانت أشبه بصراع ديوك مكسيكية، ينتف فيه الديك ريش الآخر حتى لا يبقى ريشة واحدة في كليهما.
في المناظرة ظهر المستوى الأخلاقي السوقي لما يسمى الديمقراطية الأميركية.
لغة المناظرة، قائمة على السوقية، والرخص في التشهير، لم يبق سوى الشتائم الصريحة، بعدما أشار بايدن إلى علاقة ترامب بإحدى المومسات، لم يثبت كلاهما أن المسؤولية أهم من المنصب.
البعض اعتبر ترامب الفائز «بالافتراض» ما أثار قلقاً كبيراً بين الناخبين بشأن مستقبل الولايات المتحدة ودورها في المشهد الدولي.
بعد المناظرة تضاعف الانطباع بهبوط إيقاع الدولة العظمى على مستوى العالم كله، فلا تَعدُ المناظرةُ الأميركيين بغير تعميق الانقسام، ولا تعدُ العالم بغير مزيد من الاضطراب في الساحة الدولية، وظهرت أميركا العظمى باهتةً قليلة الفاعلية في جميع القضايا الملتهبة والمجتمعة في المنطقة الأهم من مناطق العالم، أوروبا والشرق الأوسط، وفي أوكرانيا ثمةَ من يعتقد أن صحةَ الغرب تشبه صحةَ بايدن.
في ختام المناظرة وجدَ العالمُ نفسَه أمام حقيقة صعبة وربما مكلفة، فظهر ترامب وكأنَّه قدرٌ أميركيٌّ ودولي يصعب الفرارُ منه، فليس بسيطاً أن يكونَ سيدُ البيت الأبيض رجلاً شعبوياً يصعب التكهنُ بتوجهاته الشرق أوسطية، يغلِي على نارِ المذبحة المفتوحة في غزة واحتمالات انتقالِ الحرب إلى الجبهة اللبنانية، وماذا عن «الدولة الفلسطينية» التَّي قد تشكل المخرجَ الوحيدَ لضمان عدم تكرار «الطوفان» والحروب؟ وماذا عن الخلاف النووي مع إيران؟ وفي الشرق الأوسط تحولت إدارة بايدن إلى مقطورة تجرها أحصنة اليمين الإسرائيلي المغامر، لتظهر إدارته شريكاً مباشراً في أفظع مذبحة لمدنيين وأطفال في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
لقد لاذت إدارة بايدن بالحضور الاستعراضي إلى أرض الحرب حتى كاد ينقل البيت الأبيض إلى الشرق الأوسط، أو أن يفتتح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ومسؤولين أميركيين مقرات رسمية لهم في تل أبيب والقاهرة والدوحة، حيث الزيارات التي لم تتوقف، ولم تحقق شيئاً يذكر، وفي الواقع إذا حددنا الفائزين والخاسرين في المناظرة الكارثة، فإن الخاسر الأكبر سيكون الولايات المتحدة الأميركية ومواطنيها الذين يصوتون، وبات يعتري أغلبيتهم شعوراً بالقلق إزاء مسألة كبر سنّ رئيسهم وشكوكاً في مدى أهليّته الجسدية والذهنية للحُكم.
وزير وسفير سوري سابق