أردوغان: أهلاً بكم في تركيا
| عبد المنعم علي عيسى
في جمعتين متتاليتين صعّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من تصريحاته في سياق نهج التقارب الذي تبنته حكومته بوضوح منذ نحو سنتين على الأقل، في الأولى 28 حزيران المنصرم، قال أردوغان: «سألتقي بالسيد الرئيس بشار الأسد»، والقول وإن لم يكن مفاجئاً إلا أنه كان تعبيراً عن عزم يجهد نحو كسر حواجز نفسية راكمتها أحداث طوال وعراض على مدى يقرب من العقد والنصف، وفي الثانية في 5 تموز الجاري، قال أردوغان وفقاً لما نقلت عنه وكالة «الأناضول»، إنه «قد يوجه دعوة للرئيس بشار الأسد لزيارة تركيا مع الرئيس الروسي»، وفي تتمة التصريحات قال أردوغان إن ذلك قد «يكون بداية لعملية جديدة»، وأضاف: إنه «من الضروري لسورية التي دمرت بنيتها التحتية وتشتت شعبها أن تقف على قدميها من جديد، وتنهي حالة عدم الاستقرار»، ومن المؤكد أن هذه التصريحات الأخيرة كانت قد استخدمت «إزميلاً» أشد في محاولتها لكسر الحواجز النفسية السابقة الذكر.
لا يمكن فصل تصريحات أردوغان الأخيرة عن مخرجات اللقاء الذي جمع بين هذا الأخير وبين نظيره الروسي على هامش قمة «منظمة شنغهاي للتعاون» التي انعقدت مؤخراً بالعاصمة الكازاخستانية يوم الثالث من شهر تموز الجاري، فالبيان الصادر عن ذلك الاجتماع كان قد ذكر أن الرئيسين تناولا الأوضاع السورية و«أكدا ضرورة إنهاء حالة اللا استقرار القائمة في سورية»، إذ ليس من الصعب اكتشاف حالة التماهي بين تصريحات أردوغان وبين «البيان» بدرجة تامة، ومن الراجح هنا أن ثمة توافقات تركية روسية كانت قد تمت في «أستانا» وهي التي قضت بذهاب أردوغان نحو ما ذهب إليه، لكن اللافت في الأمر هو أن دمشق فضلت الصمت تجاه ذينك الأمرين ما يطرح العديد من التساؤلات حول «واقعية» ما ذهب إليه الرئيس التركي، وربما يضعه في خانة الفعل غير المستوفي الشروط، لكن ربما كان الفعل نوعاً من التريث بانتظار ما ستخرج به الاجتماعات السورية التركية المرتقبة في العاصمة العراقية بغداد.
قد يكون الموقف الأميركي هو المفاجأة الكبرى في هذا السياق، ففي حمأة التصريحات التركية التي شكلت دعوة الرئيس التركي لنظيره السوري لزيارة تركيا نقطة الذروة فيها، قال نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية فيدانت باتيل، إن بلاده «ترحب بالحوار السوري التركي القائم»، وهذا وحده كاف للقول إن الطرق التركي للأبواب السورية مختلف هذه المرة، فأن ترحب واشنطن بالأمر فهذا معطى يشير إلى أن لـ«الطبخة» الآن مذاقاً مختلفاً، كما يشير إلى احتمالية نضوجها رغم ما تبديه مكوناتها من أنها تحتاج لساعات أطول في «الفرن»، ناهيك عن أن هذا الأخير يحتاج إلى درجات حرارة أعلى وفقاً لما تبديه تلك المكونات أيضاً، وأهم ما في الأمر أن واشنطن تدرك أن التلاقي بين دمشق وأنقرة من الصعب له أن يكتسب درجته «القطعية» إلا عبر توليفة يمكن للطرفين أن يتوافقا عليها بخصوص الوضع القائم في مناطق شرق الفرات السوري، والمؤكد أن تلك «التوليفة» وأياً تكن صيغتها أو لونها، فإنها ستكون شديدة التأثير في مشروع «الإدارة الذاتية» الذي تنظر إليه أنقرة على أنه تهديد مباشر للجغرافيا التركية من أقصاها إلى أقصاها، ولذا يمكن النظر إلى التقارير التي وردت عبر منابر تابعة لهذه الأخيرة، ولـ«قسد» أيضاً، التي تقول إن واشنطن سارعت بعد تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية آنفة الذكر، إلى طمأنة «حلفائها» والقول إن «مشوار التطبيع السوري التركي لا يزال طويلاً»، على أنها نوع من المماطلة التي تهدف واشنطن من خلالها إلى تمرير الوقت بانتظار تكشف المشهد فيها في شهر تشرين الثاني المقبل، تماماً كما هدف أردوغان عندما قال موجهاً كلامه إلى المعارضة السورية: إن «تركيا لن تتخلى عن أصدقائها»، وكلا الفعلين يشيرا إلى أن القائم بهما يدرك جيداً أن من المبكر التخلي تماماً عن «الأوراق» التي هي في القبضة الآن.
في كل الحالات التي كانت «الإدارة الذاتية» تستشعر الخطر فيها، وهي كثيراً ما فعلت، كان القرار بشد الرحال إلى دمشق حتى بات الأمر قاعدة لا استثناء فيها، ولم تشذ هذي الأخيرة عن تلك القاعدة إبان استشعارها لـ«الخطر» الراهن هذه المرة، ففي حمأة التصريحات التركية أعلن نائب «الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي للإدارة الذاتية» حسن كوجر، عن رغبة من يمثله في عودة الحوار مع الحكومة السورية لـ«التوصل إلى اتفاق وحل يحقق استقرار المنطقة والبلاد»، لكنه أضاف إن ذلك مشروط بألا «يتم النظر إلى «الذاتية» ومشروعها على أنها عدو لسورية»، وهذا تصريح غريب لا يمكن فهمه إلا على أساس تشنجي ناجم عن ضغوطات راهنة وأخرى باتت تلوح في الأفق، فالجزيرة السورية هي جزء من الجغرافيا السورية وشعبها الذي يعيش فيها هو جزء من الشعب السوري، ومن المؤكد أن الإثنين الكل والجزء، لا عدو لهما سوى أولئك الذي رهنوا أنفسهم لمخططات خارجية حلمت بإمكان فصل الأطراف عن الجسد.
كاتب سوري