بين الكتابة الأدبية والكتابة الدرامية أيهما أكثر تأثيراً؟ … لم يسمع واحد بالقاص الروائي أسامة أنور عكاشة وإنما عرفوا صاحب ليالي الحلمية
| إسماعيل مروة
أيهما أكثر تأثيراً، الحرف أو المشهد؟ الكاتب أو الكاتب الدرامي؟ الصفحات أو المشاهد المصورة؟ أيهما أكثر تأثيراً الحرف أو الممثل؟
رحل الكبير فنياً وإنسانياً صلاح السعدني، ومن قبله بسنوات رحل الأستاذ أسامة أنور عكاشة الكاتب الرائع، وصاحب أهم نهضة في الدراما العربية والمصرية تحديداً، صاحب (الشهد والدموع) و(ليالي الحلمية) و(أرابيسك) و(الراية بيضا) وصاحب العروض المسرحية العالية، وكانت مسرحيته (الناس اللي في الثالث) آخر ما أنجزه في المسرح.
الأدب وهجرانه
قلت له مرة أنت من أهم كتاب القصة القصيرة في الستينيات والسبعينيات، ويكفيك ما قاله فيك الدكتور أحمد سيد النساج، بأنك الكاتب الأكثر نجاحاً، يومها فاجأني الأستاذ أسامة، بأنه لم يقرأ هذا الكلام، وضحك، فقال: إذا كنت أنا المعني بالكلام والمدح لم أقرأ ما قاله د. النساج عن مجموعتي (دماء على الإسفلت) فلك أن تتخيل عدد الذين قرؤوه، ومن ثم لك أن تتخيل عدد الذين قرؤوا قصصي، وتابع أسامة، لا أزال أطبع كتبي وقصصي ورواياتي بين وقت وآخر، وأقدمها هدية لأحبابي، والكتابة عندي- كما قال أسامة- ليست غاية، فلا أجلس لكتابة رواية أو مجموعة، لكنني قد أكون في استراحة، وبين عملين، أكتب من باب الترويح عن النفس لا أكثر، وأقوم بطبع هذه الكتب من بقايا عوائد الدراما.. ضحك أسامة وقال: من حسن الحظ أنني وجدت طريقي إلى الفن والسينما والدراما، وكان أسامة قد بدأ بفيلم (شقة في وسط البلد)، ومع تحقق أمرين اثنين تفرغ أسامة للفن، الأول منهما هو العائد المادي المحترم الذي يجعله قادراً على العيش بطريقة لائقة ومحترمة، والثاني وصول ما يريده من الكتابة إلى أكبر شريحة من الجمهور، فما من واحد في مصر والعالم العربي لا يعرف هذا الكاتب وأعماله، وقال في مرات عديدة: لو بقيت للكتاب فمن سيعرفني؟ وماذا يفيدني رأي النقاد؟ وقال جملة مهمة: حتى نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس أسهمت السينما في الوصول إلى ما وصلا إليه.. نصحني يومها أن أهجر القلم والورق، وأن أتوجه إلى الدراما.
الثقافة من التلفزيون والدراما
ومع رحيل صلاح السعدني أعود لأتذكر ما قاله أسامة إن ثقافتنا ننهلها من التلفزيون والفن، وأن القراءة ليست في حالة مقبولة على الإطلاق، ولو تم بيع كل نسخ الكتاب الألف، فإن الذين قرؤوا أقل من نصف هذا العدد، أما الدراما فإن من تصله أفكارك الملايين، ولا يبذلون أي عناء، وشهرتك أكبر ومردودك أعلى، أما الكتاب فهو مسكين تماماً.
وفي هذا السياق يمكن أن نتذكر الكاتب الروائي حنا مينة الذي ترك عشرات الروايات ولكن شهرته الحقيقية لدى الناس جاءت من مسلسلاته وأفلامه «بقايا صور، نهاية رجل شجاع، الشمس في يوم غائم، المصابيح الزرق».
خطورة الدراما والتوجه إليها
اليوم لمست ذلك لمس اليد، ولو كان الأمر من قبل لتغير الكثير، فالفكرة كما رأيت تصل أكثر، والشخص يعرفونه أكثر، وأيام قليلة على الشاشة أو في خدمتها يمكن أن توصل الآراء والصورة والشخص إلى شريحة أكبر من الناس، وعرفت ما قاله أسامة عن ميله إلى الدراما، وعن تشجيعه لابنه لاختيار الفن والإخراج والعمل به، ولم يكن الأمر ملبساً، بل كان واضحاً، بأن الإعلام والفن هو القادر على تحقيق حياة لائقة، وعلى توصيل ما يريد المرء.
أستند إلى الكتابة والكتابة التي لم أستطع مغادرتها إلى سواها، وأمشي إلى جوار شاب صغير عرفته الدراما، لأجده معروفاً أكثر، ومؤثراً أكثر، وهذا يسعدني، والذي نقابله يشرح بالتفصيل ما رأى، ولكنه لا يطلب كتاباً، ولم يقرأ كتاباً، وربما عرف كل الميراث الكتابي من خلال الشاب الذي أمشي إلى جواره على الحقيقة، وليس هو من يمشي إلى جواري.
بين الطبع والصورة
ما سمعته قبل عشرين عاماً من أسامة، وما عبّر عنه السعدني، وما لمسته كان بحاجة على ما يبدو لتعزيز، ولم أتعلم، ولو متأخراً، أن زمن الكتاب بدأ يذوي، ولو عاد إلى أحسن حالاته، فإنه لن يصل إلى الملايين في الداخل والخارج، وهذا يدفعني للحديث عن الأثر والتأثير للفن والدراما، وضرورة توخي الحذر في العمل الفني، وخاصة نحن نجد أنه الوسيلة الأولى للتثقيف والتربية والتعليم، وعدد من الذين يعملون في الفن وأعرفهم، إما أنهم ينتمون إلى أهلٍ أساتذة، فانظر إلى أثرهم وأثر أهلهم بعيداً عن العاطفة، أو انحازوا إلى الفن وهجروا الكتاب، فصاروا على كل شفة ولسان وبحبوحة.
الدور الذي يجب أن نعرفه
الفن عمل خطير ورسالة ووسيلة تثقيف وشهرة، فلننظر كيف نعمل على تثقيف أنفسنا مع الضعف القرائي المذهل! ترى لو لم يكتب عكاشة للدراما فأين سيكون؟ ولو لم يكن صلاح السعدني ممثلاً فهل سيكون أحسن حالاً من أخيه الرائع محمود السعدني؟ وقد تجاوز كلاهما بالفن كل شهرة وتأثير.
مع ملاحظة أن محمود السعدني، وهو الكاتب الرائع في سخريته وأدبه، جاءت ظروف في طريق مسيرته الإعلامية استطاعت أن تعطيه دور النجومية، وأن تسلط عليه الأضواء، وأقصد هنا خلافه مع السادات وسجنه، ومن ثم هجرته واغترابه حتى رحيل السادات، هذا أكسب السعدني الكبير شهرة كبيرة، ولكن وللحق، فإن هذه الشهرة وقفت عند الموقف السياسي، والتعاطف في مواجهة الحاكم، ولكنني في كل ما قرأت وشاهدت، لم أجد تركيزاً على كتب محمود السعدني، وعلى رأسها (تمام يا فندم) فحتى شهرة محمود السعدني لم تدفع لقراءته ومعرفة ما قدّمه في حياته.
الثقافة ومؤداها
لم يكن السعدني الكبير محظوظاً بكتابه أو كتبه، وهو نفسه يتحدث عن أساتذته وإنجازاتهم، لكن واحداً منهم لم يصل إلى شهرته لارتباطه بالموقف السياسي وأخيه صلاح السعدني، لأنه ناله من ظلم السياسة ما نال أخاه وبسببه.. فالثقافة اليوم هي ثقافة إلكترونية وإعلامية ودرامية، والورق والكتاب يأتي في مرحلة تالية، لكنه يعجز عن تحقيق الحياة أو إيصال الرسالة..!
لذلك لا تعجب ولا تحزن عندما ترى شاباً صغيراً يتحلق الناس حوله ويتأثرون بآرائه وأدواره، ويرونه مثالاً لهم، في حين لا يعرف واحد منهم نجيب محفوظ أو حنا مينة!
بالأمس القريب التقط أحد الشباب في الدراما صورة له وهو يقرأ كتاباً، فانهالت الطلبات على المكتبة تطلب هذا الكتاب، وبين المزاح والجد، قلت له: لم لا تلتقط صوراً مع بعض كتبي لعلّ الجيل الجديد يقرأ واحداً من هذه الكتب التي تنام على الأرفف؟!
ما قاله أسامة وصلاح عن الدراما ودورها التثقيفي في مرحلة متقدمة يستحق أن نقف عنده لنعي دور الدراما وأثرها..