ناخبو أوروبا بين الحمامة والغراب
| عبد المؤمن الحسن
ما الذي يجري في أوروبا؟ سؤال لا بد من طرحه ونحن نشهد تغيّر الائتلافات السياسية الأوروبية الحاكمة بهذا الشكل المتطرف، ليس على صعيد الفائزين في الانتخابات ونقصد هنا اليمين المتطرف الذي بدأ يصعد ويكتسح ويكنسُ أحزاب الوسط ويمين الوسط التي حكمت أهم دول أوروبا على مدى العقدين الماضيين، وإنما على صعيد الانقلاب الفجائي في المزاج الشعبي للناخب الأوروبي وتغير اختياراته وتفضيلاته لممثليه في البرلمانات الأوروبية من اليمين إلى اليسار كما حدث في فرنسا.
فبعد أن قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات نيابية مبكرة في خطوة وصفت بالمتهورة، حصلت مفاجأتان غير متوقعتين، الأولى في المرحلة الأولى من الانتخابات حيث أفضت لنتائج تاريخية أيقظت الفرنسيين على أسوأ كوابيسهم وهو فوز أقصى اليمين بزعامة مارين لوبان وجوردان بارديلا بأغلبية الأصوات، وحلول كتلة يمين الوسط التي يتزعمها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ثالثاً بنسبة 20 بالمئة من أصوات الناخبين فقط خلف اليسار المتطرف في فرنسا بزعامة جان لوك ميلانشون.
المفاجأة الثانية حصلت في المرحلة الانتخابية الثانية التي جرت يوم الأحد الماضي حيث بفرق زمني مدته 7 أيام فقط تغيرت نتائج الانتخابات الفرنسية بعد أن سبقتها أيام حبلى بالتصريحات والمكائد والتنسيق والانسحابات وأفضت لقلب النتيجة السابقة رأساً على عقب، ليفوز تحالف أقصى اليسار بزعامة «حزب فرنسا الأبية» وعلى رأسه ميلانشون بالانتخابات بـ182 مقعداً وليصعد التحالف الرئاسي بقيادة الرئيس ماكرون ليحتل المركز الثاني هذه المرة بـ168 مقعداً وليتراجع أقصى اليمين و«الجبهة الوطنية» بزعامة لوبان إلى المركز الثالث بـ143 مقعداً.
واستناداً إلى النتائج السابقة، لم يحقق أي حزب الأغلبية المطلقة المطلوبة وهي 289 من أصل 577 مقعداً نيابياً ليتصدى لمهمة تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة في مفاجأةٍ كبيرة مثلت انتكاسةً لليمين المتطرف، الذي توقعت استطلاعات الرأي قبل الانتخابات فوزه بفرق مريح، وخاصة بعد صعود اليمين في الانتخابات الأوروبية التي جرت قبل شهر كامل.
إذاً أسبوع واحد فقط كان كفيلاً بتغيير المعادلات السياسية وشكل مجلس النواب الفرنسي الذي سيحكم فرنسا ويصدق على قوانينها وتشريعاتها خلال السنوات المقبلة وكيف؟ بهذه الطريقة الدراماتيكية، من فوز أقصى اليمين إلى فوز أقصى اليسار، وهذا ما يطرح العديد من التحديات والتساؤلات.
أولاً، لن تستطيع أي كتلة داخل البرلمان الفرنسي تشكيل الحكومة منفردة لعدم حصول أي واحدة على الأغلبية المطلوبة لذلك، ومع الخلافات العميقة بين التيارات الكبرى الثلاثة، قد يكون التحالف مع الأحزاب الصغيرة كـ«حزب الخضر» هو الحل الأمثل لتشكيل ائتلاف قادر على حكم البلاد.
ثانياً، وهو المتوقع منطقياً أن تدخل البلاد في حالة استعصاءٍ سياسي ناجم عن التقارب الشديد في عدد المقاعد النيابية والاختلاف الشديد في التوجهاتِ السياسية بين الكتلة الفائزة وبين سياسات رئيس الجمهورية، وقد بدا ذلك واضحاً منذ اللحظات الأولى التي تلت الانتخابات، حين قدم رئيس الحكومة الفرنسية غابرييل أتال استقالته بعد الخسارة المدوية، لكن الرئيس الفرنسي لم يوافق عليها، ما دفع زعيم اليسار الفائز ميلانشون إلى استبعاد أي مفاوضات بشأن الحكومة الجديدة مع ائتلاف الرئيس إيمانويل ماكرون ومطالبة الرئيس بالتصرف بشكل دستوري يتضمن الإقرار بالهزيمة واحترام إرادة الناخبين ودعوة الكتلة الفائزة لتشكيل الحكومة وفق المتعارف عليه.
ثالثاً يظهر بالعين المجردة مدى التخبط الذي يعيشه الشارع والناخب الفرنسي في اختياراته واصطفافاته، ومدى نفور هذا الشارع من سياسات الرئيس الفرنسي الحالي لدرجة أنه اختار أقصى اليمين بكل تطرفه، ثم عاد لاختيار أقصى اليسار بكل تطرفه واختلافه مع اليمين والرئيس في مدةٍ لا تتخطى الأيام السبعة، وكأنه يقول ليحكمنا من يحكمنا وبأي أجندة ما عدا ساكن الإليزيه الذي أنهكنا وأوصلنا إلى ما نحن فيه.
بالانتقال إلى الجارة اللدودة بريطانيا وبعد أربعة عشر عاماً من حكم المحافظين، فاجأ رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك البلاد وأعضاء حزبه بالدعوة إلى إجراء انتخابات في وقت أبكر مما كان مقرراً في أيار من العام المقبل، وكما حصل في فرنسا مني سوناك وحزبه الحاكم وهو حزب المحافظين، بأسوأ هزيمة انتخابية في تاريخه السياسي، حيث بينت نتائج صناديق الاقتراع أنه حصل على 131 مقعداً فقط، وفقد أكثر من 250 مقعداً، من أصل 345 كان يسيطر عليها في مجلس العموم المنحل، بينما حصل منافسه التقليدي حزب العمال على 412 مقعداً ليسجل سابقة تاريخية في الحياة السياسية البريطانية لم تحصل منذ عام 1830 أي منذ 194 عاماً، وهي فوز بهذا الفرق الهائل لأحد الحزبين الرئيسيين في المملكة المتحدة، وبناء على هذه النتائج شكل زعيم حزب العمال الفائز رئيس الوزراء الجديد كير ستارمر حكومته، عقب إعلان قصر باكنغهام تعيينه رئيساً لوزراء بريطانيا.
كلتا المعركتان الانتخابيتان اللتان حصلتا بإرادة الزعيمين البريطاني والفرنسي أفضت إلى خسارات مذلة للسلطتين الحاكمتين، والنظامين القائمين في دولتين من أكثر الدول تأثيراً في السياسات العالمية والمنظمات الدولية، ما يدفعنا للتساؤل عن جدوى هذه القرارات التي اتُّخذت، وكيف يمكن أن يُقدم زعيمان سياسيان يفترض أنهما مخضرمان ويمتلكان فرقاً استشارية سياسية على أعلى المستويات في مثل هذا الظرف العالمي الدقيق على مغامرة كهذه غير محسوبة النتائج، وخاصة إذا وضعنا في حسباننا أن كل ما جرى ويجري في العالم خلال الأعوام العشرين الماضية منذ مأساة احتلال العراق عام 2003 بشراكة أميركية بريطانية قبيحة في الكذب والتبرير، وصولاً إلى الوضع العالمي الحالي الذي ينبئ إلى حد بعيد باقتراب العالم بأكمله من صدام نووي في أكثر من مكان، كان بتدبير وتواطؤ واضح من القيادات السياسية لهذه الدول مع الولايات المتحدة الأميركية التي تقود ما يسمى «العالم الحر».
بحسبةٍ بسيطة يمكننا القول: إن الناخب في هاتين الدولتين المحوريتين، ويمكن أن نسحب ذلك على الناخب في الانتخابات الأوروبية التي جرت قبل شهر وأفضت أيضاً إلى صعود اليمين بكل تطرفه وحصوله على المركز الأول في إيطاليا وفرنسا، وعلى المركز الثاني في ألمانيا وهولندا، وحتى على الناخب في الانتخابات الأميركية اللاحقة التي ستجري في الـ5 من شهر تشرين الثاني المقبل، إذ يمكننا القول: إن الناخب قد وصل إلى قناعة تامة بسوء خيارات هذه الإدارات مجتمعة، والدليل أنها أفضت إلى ما وصل إليه العالم من توتر واشتعال، وقرر أن يرمي عن كاهله وعبر بوابة الانتخابات المفتوحة أمامه هذا العبء الذي حمله مُكرهاً طوال الفترة الماضية.
والسؤال الأخير الذي لا بد من طرحه، هل أقدم سوناك وماكرون على حل البرلمانات والدعوة إلى انتخابات مبكرة بدافع الديمقراطية والاحتكام إلى الشعب؟ رغم أنهم كانوا يعرفون سلفاً أنه لن يختارهم، وخاصةً بعد نسب التضخم العالية والبطالة المرتفعة وارتفاع أسعار المحروقات والخدمات المختلفة، والتورط في تسعير الحرب في أوكرانيا بدعم النظام الأوكراني الذي تبنى الشعارات النازية، من جيوب دافعي الضرائب الأوروبيين والأميركيين، والسكوت عن المقتلة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة منذ تسعة أشهر وغير ذلك من الأخطاء الكارثية.
أم إنهما أقدما على الهروب بشكل ذكي وديمقراطي مما اقترفاه، وهما يعرفان سلفاً أن النتيجة ستكون لمصلحة القوى السياسية ذات النهج المخالف لنهجهما، كما يعرفان أيضاً أن الفائز الجمهوري المتوقع في الانتخابات الأميركية سيقوم بجلدهما وبجلد دول الـ«ناتو» على كل الأخطاء التي قاموا بارتكابها خلال السنوات الأربع الماضية، وهم يسيرون كالعميان متورطين تحت إمرة الرئيس الديمقراطي جو بايدن من دون أي قدرة على الانسحاب أو التوقف، لذلك اختارا أن يورطا بقية القوى السياسية في هذه اللعبة، بل اختارا لهذه القوى أن تكنس نفايات أفعالهما وتتحمل العواقب الكارثية لأخطاء الحسابات والقرارات التي اتخذوها، بينما هم خارج اللعبة ينتظرون العودة عندما تسنح لهم الفرصة، كما فعل رئيس الحكومة البريطاني الأسبق توني بلير بعد جريمة احتلال العراق بالشراكة مع الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن.
في كل الأحوال يبدو أن أوروبا لن تبرأ قريباً مما أوقعت نفسها به، وستبقى تعاني ردحاً طويلاً من الزمن اقتصادياً وسياسياً وحتى إنسانياً واجتماعياً من سياسات مجموعة من المراهقين والمغامرين السياسيين الذين ابتليت بهم القارة العجوز، واختارتهم على أمل أن تسترد شبابها وسطوتها وهيمنتها، لكنها بسبب خياراتها الكارثية وصلت إلى حيث كانت كالغراب الذي حاول تقليد مشية الحمامة، فلا استطاع تقليدها ولا استطاع أن يعود إلى مشيته الأولى.
صحفي سوري