بريطانيا تصوت للاعتدال
| عبد المنعم علي عيسى
في غضون أربع سنوات أو تزيد انقلب المزاج العام البريطاني 180 درجة، ففي انتخابات العام 2019 سجلت النتائج هزيمة ساحقة لحزب «العمال» البريطاني الذي توارى في حينها ليصبح أشبه بـ«ظل» حزب وليس حزباً عريقاً تمتد جذوره لنحو قرن وربع، وفي انتخابات 2024 سيحقق الحزب عينه فوزاً ساحقاً على منافسه حزب «المحافظين» الذي تلاشى ثقله وراء 121 مقعداً، وهي كتلة لا يزيد حجمها على 18 بالمئة داخل مجلس العموم البريطاني، مسجلاً بذلك أسوأ هزيمة انتخابية له منذ العام 1906 عندما تقلصت كتلته إلى نحو 16 بالمئة أو تزيد قليلاً.
مثل هكذا نتيجة تطرح إشارات استفهام حول الخيار الذي ذهب إليه رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب «المحافظين» السابق أيضاً ريشي سوناك عندما أعلن في 22 أيار الماضي أنه «طلب من الملك الدعوة لإجراء انتخابات عامة في 4 تموز المقبل»، وهي الدعوة التي استجاب لها الملك على الفور، فمثل هكذا دعوات غالباً ما تأتي في سياق حالة من الاستعصاء يصعب من خلالها على الحاكم، عبر التوازنات القائمة، أن يدير دفة «السفينة» تبعاً لرؤاه وكذا الرؤى التي يتبناها حزبه، والسياق عينه لا بد أن يلحظ احتمالية أن يفرز المشهد توازنات جديدة ربما تكون أفضل أو هي تعزز من القبضة التي تمسك بالدفة آنفة الذكر، وفي مثل هكذا سيناريوهات احتمالية «الخطأ» واردة، بمعنى أن تأتي الرياح على غير ما تشتهيه السفن لاعتبارات عدة من بينها المستجدات التي قد تحدث في الفترة التي تفصل بين الدعوة للانتخابات وإجرائها، لكن أن تأتي النتائج على الهيئة التي جاءت عليها في 5 تموز الجاري فهذا يعني أن ثمة خطأ في الحساب كبير، وهو يشير أيضاً إلى عطب في البرامج التي غالباً ما تكون نتاجاً لاحتياجات الشارع وميوله التي يبديها في شتى الاتجاهات.
ثمة احتمال لا يمكن تجاهله لتفسير «خطأ الحسابات» آنف الذكر وهو يقوم على أن ريشي سوناك أيقن أنه أضحى حاكماً لا يمثل الأغلبية اللازمة لنجاح حكمه، وربما جاء ذلك التحول تعبيراً عن حال الاضطراب الحاصل في البلاد بفعل أحداث داخلية من نوع الاستفتاء على استقلال اسكتلندا والاستفتاء على «البريكست»، التي عنت خروج بريطانيا من «الاتحاد الأوروبي»، وأخرى خارجية لعل الأبرز منها حربا أوكرانيا وغزة اللتان كرستا حالة «التحاقية» بالولايات المتحدة بدرجة كانت ضارة بصورة بريطانيا التي اهتزت على وقع المواقف التي اتخذها سوناك عندما عارض المسعى الذي ذهبت إليه «المحكمة الجنائية» الدولية بخصوص إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين جنباً إلى جنب مع قادة من الصف الأول في حركة «حماس»، وربما كان هذا التحدي الأخير من بين التحديات الكبرى التي ستواجه رئيس الحكومة البريطانية الجديد كير ستارمر الذي جرى تكليفه يوم الجمعة المنصرم.
كرست نتائج الانتخابات البريطانية الأخيرة ميلاً للمزاج العام في البلاد نحو الاعتدال، ولعل من الجائز القول: إن هذه السمة الأخيرة هي التي تطبع سلوكية رئيس الوزراء الجديد، لكن هذه الصفة قد يكون من الصعب لها أن تستمر، فتحدد السياسات العامة للبلاد لاعتبارات عدة أبرزها رزمة التحديات الكبرى التي تواجه البلاد وفي الذروة منها العلاقة مع الولايات المتحدة التي أضحت أقرب إلى «التبعية» المطلقة ما بعد «البريكست 2020»، والمشكلة التي أفرزتها الانتخابات في هذا السياق هي أن البريطانيين مضوا نحو تهميش «حزب الإصلاح»، الذي أنشأ أصلاً ليكون «حزب البريكست»، والأخير لم يحصد سوى 4 مقاعد في تراجع ملحوظ للثقل الذي سجله في انتخابات 2019 التي حصد فيها 12 مقعداً، والأهم هنا أن الانحسار، كنسبة مئوية، كان قد بلغ ما نسبته الثلثين ما يعني أن «النسيج» برمته آيل للتلاشي وربما الذوبان، وهذه إشكالية لا بد لها أن تؤخذ بعين الاعتبار لدى غرف صناعة القرار.
على أي حال يمكن القول: إن بريطانيا التي صوتت لـ«الاعتدال» قد استطاعت الحد من حركة رياح «اليمين» التي اجتاحت أرجاء القارة الأوروبية، والتي لا تزال تهدد بتحقيق المزيد، وذاك لوحده فعل إيجابي قياساً لمحورية الدور الجغرافي والتاريخي الذي تلعبه بريطانيا، وإن كانت هناك احتمالية وازنة بأن يكون ذلك الفعل مؤقتاً، بمعنى أن خيار «الاعتدال» قد يكون مرحلياً فحسب، والشاهد هو أن تصريحات زعيم حزب «الإصلاح» نايجل فاراج، الذي يتبنى أفكاراً مناهضة للهجرة ومعادية للإسلام في آن، التي تلت إعلان النتائج، تشير إلى أن الأخير يفكر في بناء تحالف مع حزب «المحافظين» المهزوم بدرجة موجعة، وذاك فعل فيما لو حصل، فإنه سيؤدي حتماً إلى ولادة حركة يمينية في بريطانيا لها مبرراتها الداخلية، وهي تعتد بنظيرات لها في المحيط الأوروبي الذي بات مضطرباً بدرجة تدعو للقلق.
كاتب سوري