سرقة النوايا البنّاءة!
| إسماعيل مروة
ما من واحد منا لم يقرأ عن الكيفية التي استطاعت فيها الإمبراطورية الرومانية أن تبني نفسها، والتي ما تزال بقاياها تحكم العالم وتتحكم به، وما من واحد لم يقرأ من قبل عن ثقافة اليونان الإغريق، وعدد منا يعلم أن العالم محكوم إلى اليوم بآراء فلسفة اليونان من أرسطو إلى سقراط وأفلاطون، وما من واحد منا لم يعلم آليات بناء الحضارة الفارسية التي تقاسمت العالم، والعالم العربي ضمناً، مع الإمبراطورية الرومانية، وقد استطاعت هذه الحضارة العريقة أن تواجه الزمن، وأن تستقبل المؤثرات وأن تهضمها، ثم تعود إلى تصديرها بالطريقة التي تناسبها، بما في ذلك الدعوة الإسلامية والفتوح الأولى، ولا تزال إلى اليوم تحتفظ بمقومات الحضارة الأولى، وكذلك الإمبراطورية المؤثرة.
ولو تقدمنا بالزمن، فما من واحد يعي لم يعرف ما جرى في الحربين العالميتين، وكيف انهارت ألمانيا وقسمت، وكيف سقطت اليابان ونالها دمار تجارب القنابل النووية، ولكنه لم يمض نصف قرن حتى قامت الدولتان، فالأولى إمبراطورية على مستوى العالم، والثانية من أهم الاقتصادات على مستوى العالم، وأقوى الدول الأوروبية بكل جانب، وحين توحدت الألمانيتان استطاعتا بسرعة قصوى تجاوز كل الفوارق، وتوزيع التفوق لتغدو الدولتان على الرغم من كل خلاف في منتهى التجانس.
ردد الكتاب والمحللون تجارب هذه الأمم للإفادة منها، بل إن شعراءنا العرب تغنوا، وكتابنا نقلوا لنا التفاصيل، ومن ذلك ما نقله عبد السلام العجيلي في زيارته لليابان، ورؤيته للاحتجاجات المطلبية الليلية الصامتة التي لا توقظ نائماً، والتي ترتب عنها استجابة مباشرة في الصباح لكل المطالب التي نزلوا من أجلها..!
وتحدثوا عن البعثات التعليمية اليابانية والألمانية وغيرها التي توجهت بانتمائها الوطني وحبها لبلادها إلى البلاد المنتصرة المستقرة، وتروى قصص عجيبة عن هؤلاء المبتعثين الذين تغلغلوا في كل مفصل من مفاصل الحضارة والثقافة حتى تمكنوا من سرقة التكنولوجيا والحضارة والثقافة لبناء بلدانهم.
جميعنا يعرف أن الأنهار لا تسقي إلا غصباً، وأن هذه البلدان حين يذهب إليها المبتعثون تهيئ لهم كل أسباب التعلم ومحو الأمية والراحة، لينجز واحدهم مهمته، ويحمل شهادته، ليعود إلى وطنه، وفي بلادنا نجد أن المتفوق منهم يمكن أن يأتي متقناً للغة، ويصبح مترجماً لتراث تلك الأمم، والأغلبية منهم لا يحصلون على شيء، فهذا يتخصص بالذرة ويعود مترجماً للشعر إن أتقن تلك اللغة، وذاك يذهب للميكانيك ويعود ليصبح صحفياً وكاتباً، وكأنّ كل واحد لا علاقة له بالتخصص الذي ذهب له! فإن كانت النتيجة هذه فإنه لم يكن من داع ليذهب واحدهم ويأخذ بعثة، بإمكانه أن يتعلم اللغة هنا، وبإمكانه أن يزاحم الكتاب والصحفيين دون سفر ودراسة معادلات علمية معقدة لا يتقن منها شيئاً!!
لقد عملت سورية على إرسال عشرات بل ألوف المبتعثين، لكن النتيجة لم تكن كما يجب! وحتى لا أكون ظالماً، فإن أغلب الدول العربية أرسلت بعثاتها وعادت في الأغلبية كما ذهبت، وطه حسين يذكر أسماء عدد من الذين نجلهم كأعلام ليظهر أنهم ذهبوا وتخصصوا في تخصصات هزيلة حتى على مستوى الأدب واللغة، لأنهم لم يملكوا العدة اللازمة للبحث علمياً أو أدبياً! وقد رأينا بأعيننا مئات من الذين ابتعثوا، ولن أبالغ بالأرقام، والذين عادوا- في الأغلب- الطبيب الذي لا علاقة له بالطب، والمهندس الذي يتفوق عليه عامل النجارة الحاذق حتى في التصميم، ورأينا أغلب هؤلاء يركضون وراء مواقع إدارية أو تنفيذية، من رئيس بلدية إلى المستويات العليا، وكأن البعثات كانت للتدريب على مواقع من هذا الشكل، وكم من واحد كان متفوقاً، وحين عاد من بعثته صار مستحقاً للشفقة علمياً وإنسانياً، وتورماً في تقدير الذات!!
بقيت مجموعة أدمنت البحث والدراسة في الشرق والغرب، وهذه المجموعة بقيت هناك، وبعضها عاد ثم رجع، وبعضها عاد ولم يقدّر حق قدره وكأنه يندب حظه وتقديره!!
وفي كل حال لم تستطع النخب العربية خلال أكثر من نصف قرن أن تسرق أي نوع من العلم الجوهري اللازم، ولم تستطع الجهات المعنية الاستفادة من أي بعثات تعليمية، لأن سرقة المعرفة قد تتوافر، أما الأكثر أهمية والأكثر ضرورة وجود النية لدى السارق للمعرفة، والخطة المجدولة لدى من يحمله مسؤولية السرقة المعرفية والاستفادة منها.