رسالة غسان كنفاني إلى غزة المكلومة.. العيب ليس في الشعب
| نعيم إبراهيم
لم تكن الروح الفلسطينية حائرة يا غسان كما هي عليه اليوم، في غزة أم في الخليل ورام اللـه والقدس أم في عكا وحيفا والناصرة أم في شتات اللجوء على ظهر هذا الكوكب.
غسان أيها الفلسطيني الخالص قلباً وقالباً لم تضع نفسك إلا حيث يكون الرجل الأديب والمقاوم والإنسان المحترم المتزن والمتوازن، وحفِرت أثرَك في شَغاف القلب باسم الوطن، وتجذرت في غزة كما في عكا وكل أكناف بيت المقدس وعرفت لمن تكن الحب والولاء؟!
مع تزامن ذكرى اغتيالك من قبل «الموساد» الصهيوني في بيروت في الـ8 من تموز 1972، تكون تغريبة غزة قد دخلت فصولاً جديدة من مشهدية الدم والقتل والدمار والتشريد على أيدي شذاذ الآفاق أحفاد هيرتزل وبن غوريون وغيرهما لتستمر تجليات الحياة والموت، الحُلم واليقَظة.
ولأنك يا غسان تبقى وأمثالك نقطة ضوء تتوسّط جموعنا مطلاً علينا دائماً من شرفة بعيدة عن العين، وأنت القريب من القلب والعقل والوجدان، فإنني أقتبس نوراً مما ذكرت عن غزة في إحدى رسائلك قبل أكثر من اثنين وخمسين عاماً إلى قرينك رئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية طلال سلمان حول حديثك «عن الحرب الإسرائيلية الثالثة، الرابعة، الخامسة التي تشنها قوات الاحتلال على غزة، مع توصيف دقيق لأحوال أهاليها المحاصرين، براً وبحراً وجواً، والذين لا يكادون يغادرون جبانة الشهداء إلا ليعودوا إليها».
كتبت يا غسان مخاطباً سلمان: «لم تكن بيروت وحدها ضحية النار الإسرائيلية، لقد سبقتها أكثر من مدينة فلسطينية والعديد من مخيمات اللاجئين هنا في الضفة، أو غير بعيد عنا، في غزة ورفح وخان يونس إلخ… وها هي النار الإسرائيلية تحرق غزة مجدداً ولا من نصير»، وأنت «تعرف أن شعبنا، جيل آبائنا وجيلي، وجيل أبنائي وأحفادي، عاش في قلب النار. لم يعد سقوط الشهداء خبراً إلا بأعدادهم، أما الجرحى فلا يستذكرهم الناس إلا نادراً وعبر الحديث عن بيوتهم التي هدمت أو تصدعت».
إذاً الحريق مستمر يا غسان وغزة الأنثى الجميلة والراقية تغتصب ويمزق جسدها اليوم أمام رؤوس الأشهاد تحت عناوين شتى ولا من نصير إلا من رحم ربي، ويتم تحضير ما تبقى منها لليوم التالي من أجل إتمام الجريمة، حيث لا يفوت الجلادون الصهاينة بكليتهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أي فرصة في الإمعان بالقضاء على الشعب الفلسطيني من ألف الأفعال إلى ياء التنفيذ، في حين السواد الأعظم من القيادات الفلسطينية والعربية لا يفوتون فرصة امتطاء الموجة لتساوق مصالحهم مع مصالح المشروع الصهيو أميركي – الغربي الرجعي في المنطقة وجميع هؤلاء المتنافخين شرفاً يتغافلون عن حقيقة أن السلام والاحتلال لا يلتقيان أبداً وأن كيان العدو الصهيوني بُني على الاستيطان والإرهاب والعنصرية، وهكذا يظل.
لقد دللت على ذلك يا غسان مراراً وتكراراً في كل صنوف الأدب والسياسة التي خضت غمارها وها هو رئيس وزراء كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو يؤكد في أكثر من مناسبة أنه لن يتم إيقاف الحرب حتى تحقيق جميع الأهداف المعلنة التي وضعها مجلس الحرب الصهيوني ومنها:
– تجريد القطاع بأكمله من السلاح، ووضع ترتيبات وآليات لضمان ذلك.
– إنشاء نظام متكامل للإنذار والحماية على الحدود يوفر الأمن لمواطنيها في حال عدم استيفاء الشروط المطلوبة في قطاع غزة أو انتهاكها، كما تشمل الترتيبات الأمنية محيطاً أمنياً يتراوح عرضه بين كيلومتر وثلاثة كيلومترات، ولن يسمح لسكان غزة بالدخول إليه من دون إذن خاص.
هي أهداف صهيونية قديمة جديدة حيث كشفت وثيقة مسربة من وزارة الاستخبارات الصهيونية عن مخطط تل أبيب لتهجير سكان قطاع غزة إلى مصر، وأشارت الوثيقة المسربة التي يعود تاريخها إلى تشرين الأول 2023، إلى نقل سكان قطاع غزة «قسراً» إلى سيناء، مشيرة إلى أن ذلك «سيحقق نتائج استراتيجية إيجابية وطويلة الأمد».
وحددت الوثيقة الاستشارية المسربة عملية من ثلاث مراحل وهي «إنشاء مدن خيام في سيناء، فتح ممر إنساني، وبناء مدن في شمال سيناء وعدم السماح للسكان بالعودة إلى النشاط أو الإقامة بالقرب من الحدود الإسرائيلية».
وأوضحت الوثيقة أن وزيرة المخابرات الإسرائيلية جيلا جمالائيل هي التي تدعم مخطط التهجير القسري بشدة وأوصت بنقل سكان غزة إلى سيناء في نهاية الحرب.
وتوصي الوثيقة إسرائيل بالتحرك «لإجلاء سكان غزة إلى سيناء» خلال الحرب، وفي الوقت نفسه يجب تسخير دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة لتنفيذ هذه الخطوة.
ولكن هل تنجح تل أبيب؟
كشفت هيئة البث الصهيونية، أن قادة الفرق الأربع التابعة لجيش الاحتلال العاملة في قطاع غزّة قالوا، في نقاش مع نتنياهو: «إنّ الجنود الإسرائيليين باتوا منهكين لدرجة «الاحتراق»، بسبب الخدمة المتواصلة منذ 9 أشهر».
وأوضح قادة قوات الاحتلال لنتنياهو أن «تدمير الأنفاق والبنى التحتية» لحركة حماس سيستغرق «وقتاً طويلاً». في حين نقلت إذاعة «كول بارما» الصهيونية عن الجنرال إسحاق بريك، أن «إسرائيل تخسر الكثير في حربها المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، واصفاً ما يحدث في غزة بأنه «وصمة عار كبيرة، نحن نخسر الكثير، ونتنياهو يذر الرماد في العيون».
أعود يا غسان إلى رسالتك التي بعثت بها لصاحب جريدة «السفير» لأقرأ: «لم يكن العيب يوماً في الشعب. وهذا تموزكم في لبنان يدل بشكل قاطع على أن الشعب حاضر دائماً للتضحية، وأنه يعطي بلا حساب، لكن العيب في القيادات، والعيب الأفظع عندما تفسد القيادة المجاهدين بالمال، أو تشغلهم بصراعاتها، أو بارتباطها بدول لها مصالحها».
وصلت رسالتك يا غسان ووصل معها الجواب اليقين.. غزة لا بد منتصرة رغم كل هذا الدمار والقتل والتشريد، ورغم كل هذه العيوب.
إعلامي فلسطيني مقيم بدمشق