تحوّلات النخلة في «معلقة غزة على أسوار القدس» … د. الكوسى: أبو خالد استشرف بما يمتلك من بصيرةٍ حادّةٍ المستقبلَ وكأنه يعيش معنا الآن
| عبد الحكيم مرزوق
تحوّلات النخلة في (معلقة غزة على أسوار القدس) للشاعر خالد أبو خالد محاضرة قدمها الدكتور عصام الكوسى بفرع اتحاد الكتاب العرب بحمص بحضور جمهور من الأدباء والمهتمين، حيث قدم تحليلا للقصيدة أوضح من خلاله مدلولات النخلة عندالشاعر خالد أبو خالد، حيث وجد أن اختيارَ الشاعرِ رمزَ النّخلةِ لم يأت عبثاً، فالنخلةُ سيّدةُ الأشجار والصحراء، وهي رمزُ العطاء، وقد اهتمّ بها القدماءُ فكانتْ رمزَ الخصوبة والجمال، بل كانت صنوَ الإلهةِ عشتار عند الفينيقيين والعرب القدماء، والنخيل صاحب إرادة حرة وصاحب رؤية، فنخلةُ القدس هي المقاتل الفلسطيني الصامدِ في أي بُقعة من بقاع فلسطين، وهي الفدائيُّ الذي رفضَ الذلَّ، وآلمه أتونُ النار الذي تشوى به الطفولة، ولا يهمه أن يغدو استشهاده قصيدة على لسان شاعر أو خبراً عاجلاً في افتتاحيات الصحف، مادام يتطلع إلى ربيعٍ دائم يعيشه أطفاله وحياةٍ تكللُها الكرامةُ، رافضاً في الوقت عينه أن يذوب كالهندي الأحمر، فمرجانُ قلبه سيخضِّبُ زرقةَ البحر، فالفلسطيني والهندي الأحمر صنوانِ من كثرة ما تعرضا إلى المذابح، ولكنّ الفلسطيني لن يكون أحمرَ، بل أخضر؛ لأنه سينتصر في النهاية، فالخضرة تدلُّ على الانتصار والحياة، والنخيل صاحب موقف ثابت غير متلونّ، واللون الذي يعشقُهُ خالد أبو خالد هو لونُ الدم، لأنه السبيلُ الوحيدُ إلى تحقيق ما يريد، وخروجُه من النيران ومن بين الرمادِ كان هزيمةً لكلِّ من قرّرَ أن الفلسطيني الذي هُجِّر إبان النكبة سيموتُ، وستُنْسيهِ مواطنُ اللجوء وطنَهَ الأصليَّ وما يضمُه من ذكريات، وسينساه الآخرون مثلما ينسى العابرون على الطرقات ما يرونه من علاماتٍ في أثناء عبورهم، ولكنَّ كلَّ ما قرروه تلاشى مثلما يتلاشى الدخان وغدا سراباً.
النخيل صوت الحق
وأوضح د. الموسى أن النخيل هو صوت الحق فالنخيلُ هو الصوتُ الحقيقيُّ الذي يفرز المواقفَ، فهو من يمتلك الحقيقة، وهو منْ قاومَ الجفافَ سنواتٍ طويلةً ودفعَ مِنْ نسغِهِ الكثيرَ ليبقى متشبثاً بترابه منتصباً معانقاً الشمسَ، وهو وحده من يحدد العدو من الصديق، وهو القادر على تعرية الغزاة المجرمين، وهو وحده صاحب هذا المكان ليرحّبَ بالقادمين إليه من كل بقاع الأرض والذاهبين مع تباشير الصباح إلى القدس المحررة ليصلّوا صلاة الفجر في المسجد الأقصى، وهم ينشدون في طريقهم نشيد الحرية لكل فلسطين، فلهم أرضُها وسماؤها، ونهرُها وبحرُها، وجبالُها ووديانُها، وشمالُها وجنوبُها، وسهولُها وسهوبُها، وغاباتُها وصحاريها، وأضاف إن النخيل هو حامل الذاكرة والهوية، وأوضح أن خالد أبو خالد يتحول عبَر أسلوب التفافي إلى الماضي، من خلال العودة إلى حياة الطفولة التي تستدعي البراءةَ والتي دلَ عليها بلفظة (طاهر) واصفاً بها الزنبقَ البريَّ الدالَ على الحبِّ الخالدِ، وأيُّ حبٍّ أكثر خلوداً من حبِّ الطفل لأمِّهِ، فأشدُّ الناسِ براءةً أولئك الذين يعيشونَ الحياةَ ببساطتها، وهمُ الأطفال الذين لم ينغّصْ عليهم الوَعْيُ ما يدورُ حولَهم.
أحزان المكان
وعبّر خالد أبو خالد عن أحزانِ المكان عبر أيقونة (الفتاة الباكية على ضوء الشموع) التي رسمتها حروفُ كلماتِه أيقونةً تضاهي كلَّ الأيقوناتِ التي عُلِّقتْ في الأماكن المقدسة، فأيقونتُهُ هي فلسطينُ التي من أجلها سيجعلُ رحيقَ دمِهِ شَهْدَ حريتها، أيقونته هي حبيبته التي يستحضرُ خيالَها كلَّ مساءٍ، مُستحضراً ما تضمُّه تلك الأمسياتُ الدافئةُ من العتابا والميجانا والأشعار والأمنيات والأحلام، ولأجل هذه الحبيبة انتفض أبناؤها للذود عنها، مشعلينَ ثورةً امتدَّ أوراها إلى كَبِدِ السّماء،
ورأى المحاضر أن خالد أبو خالد استشرف بما يمتلك من بصيرةٍ حادّةٍ المستقبلَ وكأنه يعيش معنا الآن ما يحدث في غزّة، فلاحَ أمام ناظريه صُوَرٌ متناقِضَةٌ لأهلهِ، بل شرائحُ متغايرةٌ، فبعضُ أهْلِهِ طيبونَ يمنحونَه الدفءَ، وبعضُهم يتنكَّرونَ له، ويغلقونَ البابَ في وجهِهِ، وبعضُ أهلِهِ لا حَوْلَ لهمْ ولا قوةً، تتحكمُ بهمْ قوى كُبرى، وبعضُهم يعيشُ في قُصُورٍ، دعائمُها ملحٌ ورمالٌ، وستنهارُ على رؤوسهم يوماً ما، والشاعر خالد أبو خالد يقول من خلال معلقته: إن المناضلَ الحقَّ هو الذي يواجه ظلمَ المحتلِّ في أي مكان من هذه المعمورة، ولذا جعل هذا النخيل يمدُّ يدَه إلى كلِّ مناضل، فلغةُ النضالِ واحدةٌ في كل العالم، وطريقُ الثورة معبَّدةٌ بالدماء.
وظيفة النخيل
خالد أبو خالد حاول في المقطعِ الأخير أن يُحمّلَ النخيلَ وظيفتين مهمتين، الأولى: فضحُ العدو وتبيانُ زيفِ ادّعاءاته، وإسقاطُ هذه الادّعاءات بالحُجَّة والبرهان، والثانية أن يكونَ المؤرّخ الصادقَ لنضالِ شعبِهِ، رافضاً أن يعطيَ عدوَّهُ الغازي أو أزلامَه هذا الحقَّ، لأنهم سيكذبون وسيُزَيِّفون الحقيقةَ، لأنه سيكتبُ التاريخ الذي سطَّره الثوارُ بأسلحتهم ودمائهم.