أدباء ومفكرون ومبدعون رسخوا في ذاكرة مجلس الشعب … فارس الخوري وبدوي الجبل وعبد السلام العجيلي من فرسان النواب والكلمة
| مصعب أيوب
لم تمر الحلقتان ٢١ و٢٢ من مسلسل «تاج» المعروض في رمضان الفائت مرور الكرام، وذلك بعد أن وثقتا أبهى وأبرز أنواع الصمود والمقاومة التي أظهرها السوريون أمام بطش الاحتلال الفرنسي، فبمجرد انتهاء العرض كان المهتمون في الجانب التاريخي والتوثيقي يقومون بجولة بحثية واستقصائية معمقة لتحليل وتمحيص ما عرض على الشاشة والتأكد من مدى مصداقية ذلك ليجدوا أن ذلك حصل حقاً خلال العام ١٩٤٥، وقد قدمه المخرج سامر البرقاوي بأمانة تاريخية وبأجمل صورة سينمائية وضعت المشاهد في صورة الحدث مباشرةً، ولاسيما أنه سخّر لذلك أحدث التقنيات وجمع المعدات والتجهيزات الفنية اللازمة واستعان بفريق متمكن لبناء الديكور الذي جعل المشاهد حائراً بين اعتقاد أن هذا المبنى هو مبنى مجلس الشعب الحقيقي وبين أنه نُفذ باستخدام مواد البناء والخشب، فتكاد لا تجد أي فارق بين المبنى الحقيقي والمبنى الذي قصف فعلاً في المسلسل.
قصف البرلمان
وبالعودة إلى تلك الحلقتين وإلى ذلك التاريخ تحديداً لا بد من التوقف والإشادة ببطولات أولئك الشهداء الذين سطروا بأرواحهم أبهى كلمات التضحية وجعلوا من ذلك اليوم ذكرى تفوح بعبق التاريخ المشرف، فيمثل يوم ٢٩ أيار من كل عام ذكرى عظيمة لدى السوريين وشعلة تضيء طريق المناضلين، حيث يصادف هذا التاريخ يوم وقوف حامية البرلمان في وجه المدافع الفرنسية وجنودها من كل الجنسيات الذين جندتهم السلطات الفرنسية لمصلحتها والذين صبوا جام غضبهم على أولئك الأشراف بعد أن رفضوا أداء تحية العلم الفرنسي حين إنزاله عن دار الأركان الفرنسية المواجهة للبرلمان السوري بحيث أمر الجنرال الفرنسي يومها أوليفا روجيه حامية البرلمان السوري بذلك، إلا أن سعد اللـه الجابري طلب من الحامية عدم الاستجابة لذلك الأمر، وبالتالي ما كان من الفرنسيين إلا أن طوقوا البرلمان بمصفحات ودبابات عسكرية عنيفة وجيش من المقاتلين الذين راحوا يدكون المبنى وكل من تقع عليهم أعينهم بالنار الحي ليؤكد هذا المحتل مدى وحشيته وقذارته، فقام بقتل جميع أفراد الحامية الذين بلغ عددهم نحو 30 شرطياً إلا واحداً كتب له عمر جديد ولقب فيما بعد بالشهيد الحي، ولم يكتف الفرنسيون بذلك فحسب، بل راحوا يمثلون بجثامين الشهداء ويحرقونها ليثبتوا مدى وحشيتهم.
ووفاء لهم وتعظيماً لأرواحهم تم إنشاء لائحة كبيرة تتضمن أسماءهم تصدرت مدخل المجلس يمكن لكل من يدخل رؤيتها وهم:
«سعيد القهوجي – محمد طيب شربك – شحادة إلياس الأحمر – برهان باش إمام – مشهور المهايني – محمود الجبيلي – حكمت تسابحجي – إبراهيم فضة – محمد حسن هيكل – يحيى محمد الباقي – زهير منير خزنة كاتبي – ممدوح تيسير الطرابلسي – محمد أحمد أومري – محمد خليل البيطار- سعد الدين الصفدي – ياسين نسيب البقاعي – زيد محمد ضبعان – عيد فلاح شحادة – أحمد مصطفى سميد – أحمد محمد القصار- إبراهيم عبد السلام – جورج أحمر- محمد عادل مدني – واصف إبراهيم هيتو- عبد النبي برنية – طارق أحمد مدحت – سليمان أبو أسعد».. أما الشهيد الحي فكان إبراهيم إلياس الشلاح، الذي كان الشاهد الحي أيضاً ليروي بطولات رفاقه، وقد توفي في الـ24 من أيلول من عام 2002.
فأكد أولئك الشهداء بسالة وكبرياء جنود وأهل هذه الأرض الذين شكلوا بدمائهم مدرسة في حب الوطن والدفاع عنه وعن كرامته مكرسين الكثير من المعاني السامية والنبيلة.
موقع متميز
ما إن تقف اليوم عند تقاطع شارع بوابة الصالحية مع شارع قهوة الروضة حتى يلفتك بناء ضخم عريق تربع وسط المكان يبرز جمال الهندسة والإنجاز المعماري والحضارة العربية، من خلال الزخارف التي جمعت فروع الفن العربي من حضارات عديدة تنوعت بين الأندلسية والفاطمية والعباسية، ليستخدم في واجهاته الحجر النحيت الناعم الأبيض والحجر النحيت الأسود البازلتي، واليوم بالتزامن مع اقتراب انتخابات مجلس الشعب السوري التي ستعقد خلال الأيام القادمة لا بد من الوقوف قليلاً أمام هذا الصرح الحضاري العظيم والمهم الذي يعج بالفن العربي الأصيل.
لم يكن وقوع الاختيار على مكان بناء المجلس اعتباطياً أو عشوائياً، وإنما كان خياراً مدروساً بعناية ودقة، فهو يتربع وسط العاصمة دمشق في حي الصالحية الدمشقي العريق على أنقاض بناء سينما جناق قلعة، ولعل أبرز ما يميزه هو شكله العمراني الفريد الذي تجسد فيه العديد من الحضارات التي تعاقبت على سورية، ليكون بذلك أيقونة من الجمال السوري ومعلماً عمرانياً مهماً، ولاسيما أنه سجل في قائمة التراث العالمي.
وتشير المصادر إلى أن فترة البناء امتدت أربعة أعوام وأشرف على بنائه وزخرفته الفنان الدمشقي محمد علي الخياط، ويتألف البناء من كتلتين متلاصقتين، وفيهما قاعات للاجتماعات وعدد من الغرف والأبهاء، وقد تمت إعادة بناء وترميم أجزاء كثيرة من المبنيين وأضيف لهما العديد من الغرف والقاعات خلال فترة رئاسة فارس الخوري وأيضاً بعد عدة عقود حتى وصل إلى الشكل النهائي الذي نراه اليوم بأبهى صورة.
فنان ماهر متشرب للفن
كان محمد علي الخياط أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولكنه استعاض عن ذلك بتعلم فنون الرسم والهندسة التزينية والحفر على الخشب بعد أن تتلمذ على يد والده، فلم يحتج إلا لبضع معدات بسيطة تمكنه من القيام بأعمال الرسم والزخرفة، لينجز بتقدم الوقت الكثير من اللوحات والجداريات الرائعة التي لاقت استحساناً كبيراً وإعجاباً من متذوقي الفن والتشكيل، وقد أعجب أحد المهندسين الفرنسيين ببعض أعماله فطلب منه الذهاب معه إلى لبنان للقيام ببعض أعمال التزيين والزخرفة هناك، وكان منها: ترميم قصر بيت الدين وهو قصر الأمير بشير الثاني الشهابي وترميم السراي في بيت القمر، وعندما عاد إلى دمشق تابع نشاطه واستمر في إبداعه، وكان من أعماله: مبنى مصلحة مياه دمشق المعروف بمؤسسة مياه عين الفيجة الذي يتربع اليوم وسط شارع النصر، وأيضاً في أثاث قصر الضيافة، إضافة إلى ترميم بعض القاعات والغرف في بيت جبري وبيت نظام في دمشق القديمة، ولا ننسى بالطبع بصمته الفريدة والمتميزة في البرلمان السوري الذي استخدم فيه خطاً يعود للعهد الأموي وفرش قاعته بالأثاث التقليدي بعد أن عمل على تطوير صناعة الخشبيات المرصعة بالفضة والصدف والمحفورة على الطريقة القيصرية، كما قام بتزيين جدران وسقوف القاعات بلوحات من الفن العربي والإسلامي، مشتغلاً بالحديد والنحاس والخشب عبارات عديدة زينت البرلمان على أشكال هندسية مضفورة. وكذلك أيضاً كان له يد في ترميم قاعات عدة في قصر العظم التاريخي ومساهمة مهمة في المتحف الوطني بدمشق وتحديداً في القاعة الشامية من خلال مجموعة من الرخاميات والنقوش الخشبية.
وقد اقتنى أعماله والقطع الفنية التي أبدعها أهم وألمع الأسماء العربية والعالمية ومن دول أوروبية عديدة، وقد اشترى الملك سعود من تلك القطع وكذلك الملك حسين، وقد نال الخياط وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الثانية ١٩٦٢ بعد وفاته بعام على إبداعه ومنجزه الخالد، إضافة إلى الكثير من الأوسمة الذهبية.
أعضاء أدباء ومفكرون
الشاعر والأديب والروائي وكل من يعمل في الحقل الثقافي معني كغيره في شؤون البلاد وهموم الفرد، ولعل قلمه وفكره ينبض بآلام الجماهير وأحلامهم، وقد كان من بين الأعضاء الذين انتسبوا إلى البرلمان من أصحاب القلم والفكر النير الشاعر السوري الكبير محمد سليمان الأحمد الملقب ببدوي الجبل، وهو من أعلام الشعر الكلاسيكي خلال القرن المنصرم، وقد انخرط في العمل السياسي عقب الحرب العالمية الأولى، وانتخب نائباً في البرلمان السوري عام 1937، كما انتخب بعدها مرات عدة، إضافة إلى توليه مناصب حكومية عدة كان أبرزها وزارة الصحة 1954.
وكذلك الطبيب والأديب عبد السلام العجيلي الذي وصفه الشاعر الكبير نزار قباني بأنه أهم أديب وكاتب قصة في بلادنا لم يكن بعيداً عن هموم الناس وآلامهم وآمالهم وتطلعاتهم، فرشح نفسه لانتخابات المجلس النيابي 1947 ليكون بذلك أصغر الأعضاء سناً في المجلس، كما أنه استدعي للانخراط في تشكيل حكومات عدة تعاقبت بعد إعلان الانفصال بين سورية ومصر ليصبح فيما بعد وزيراً للخارجية والثقافة والإعلام.
وقد كان المفكر فارس الخوري رئيساً للبرلمان السوري خلال ثلاثينيات القرن الماضي ونائباً عن مدينة دمشق أيضاً خلال الأربعينيات، وهو من أبرز المراجع العلمية في القانون الدولي بعد أن عاصر ألمع القضاة والمحامين ودرس الحقوق بشكل معمق جداً وقرأ وألف الكثير من الكتب، ليغدوا بذلك مجلس النواب مكاناً فكرياً وثقافياً مهماً أيضاً وليس فقط مكاناً للنقاشات السياسية والمالية.