أردوغان إذ يحسم «خياره» السوري!
| عبد المنعم علي عيسى
خلال كلمة له أمام قمة حلف شمال الأطلسي الـ«ناتو»، والتي انعقدت مؤخراً بالولايات المتحدة الأميركية، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: إن «التفكير في إنشاء دولة إرهابية في منطقتنا هو حلم كبير بالنسبة إلى البعض»، واعتبر أن ذلك الحلم «لن يتحقق أبداً»، ومن الواضح أن الكلام موجه، بالدرجة الأولى، إلى الولايات المتحدة، لكن الأمر لم يثر حفيظة هذه الأخيرة كما يبدو، وجل ما ذهبت إليه الخارجية الأميركية، التي تجاهلت التصريح تماماً على حدته، هو أنها ذكرت بأن واشنطن على «اطلاع بخصوص الجهود التركية للتطبيع مع سورية»، وأنها «لا تعارض تلك الخطوة».
هجوم الرئيس التركي غير المباشر، لكن الواضح تماماً، على الإدارة الأميركية حيال الأزمة السورية، وتحديداً منها الدعم الذي تقدمه الأخيرة لـ«قوات سورية الديمقراطية – قسد»، وتفضيل واشنطن أسلوب التراجع منعاً للصدام، يعني تماماً أن الطريق الذي يسعى الأول لسلوكه منذ حين بات أمراً مرجحاً في ظل هذا المعطى الجديد، ومن الراجح أن واشنطن قررت الاستجابة لمطالب «الأمن القومي التركي» التي لطالما اعتبرتها أنقرة أردوغان بنداً أولاً وشرطاً لا بديل منه، لعودة العلاقة التركية- الأميركية إلى عهودها الذهبية زمن الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، الأمر الذي يعني أن طريق أنقرة – دمشق زالت من على جنباته عقبة كبرى من دون أن يعني ذلك زوال كل العقبات التي بعضها لا يزال عالقاً ومن المؤكد أن تذليلها سوف يحتاج لجهود كبرى لا بديل لعديدين أن يقوموا بها، الأمر الذي يمكن لحظه عبر التصريح الذي أدلى به الرئيس التركي من على متن الطائرة التي أقلته في طريق العودة إلى بلاده حين قال: «يجب أن تدعم كل من الولايات المتحدة وإيران تطبيع علاقاتنا مع سورية».
عشية التصريحات التي أطلقها مسؤولون أتراك منذ أكثر من عامين باتجاه دمشق، كانت جل الترجيحات تذهب نحو تشخيص تلك الانعطافة بأمرين اثنين: أولاهما الغايات الانتخابية، وثانيهما مسائل ذات ملمس اقتصادي، ولربما كان هناك في الأمر ما يدعو إليه، لكن الاندفاعة التركية البادئة قبل أكثر من شهر، والتي تنقلت فيها تصريحات أردوغان من ذروة إلى أخرى أعلى، تثبت أن ثمة اعتبارات جيوسياسية وازنة هي التي كانت تكمن وراء الفعل، وعبرها مارس أردوغان «فن» تلمس اتجاه الرياح المقبلة التي ستهب على المنطقة، وسورية في قلبها، و«الفن» إياه أوصله إلى يقين بحصول تغييرات مهمة على المشهد السوري، وهي، أي تلك التغييرات، سوف تنتج مشهداً آخر لا يشبه ذاك الذي كان سائداً منذ مطلع العقد الفائت إلى منتهاه، الأمر الذي وضعه في حالة استعداد للبحث عن تسوية سياسية مع الجار السوري بغض النظر عن المآلات التي يمكن أن تذهب إليها العديد من المسارات الأخرى التي احتوى سجلها العديد منها بدءاً من «جنيف» إلى «فيينا» ثم وصولاً إلى «سوتشي» و«أستانا».
واقع الأمر هو أن القراءة التركية سابقة الذكر، كانت تلحظ معطيات عدة راحت تتبلور بفعل عوامل عدة، لكن بشكل بطيء، الأمر الذي يفسر حركة الأمواج التركية المتفاوتة ما بين علو وهبوط على مدى العامين المنصرمين قبيل أن تتخذ حركتها منحى تصاعدياً تماماً منذ نحو شهر، ومن أبرز تلك المعطيات حالة الاحتياج التي راحت تتنامى لدى الأطراف الفاعلة في الصراع السوري لتمرير حل سياسي يخرج البلاد من حالة الإنهاك التي وصلت إليها بعدما تعبت تلك الأطراف من حمولات ذلك الصراع الذي بدا الأكثر تعقيداً قبيل أن «تسرق» منه حربا أوكرانيا وغزة تلك الصفة، ومنها تزايد الضغط الإقليمي لإطفاء «النار» السورية، الأمر الذي يمكن لحظه من خلال «المبادرة العربية» التي انطلقت شهر أيار من العام المنصرم، وهذه الحالة باتت اليوم ملحة بدرجة أكبر بعدما أثبتت الحالة السورية أنها لا تزال تتمتع بدرجة من «الحيوية» تمنحها القدرة على تفعيل استقطابات عرقية ومذهبية وطائفية على امتداد المنطقة، أما ثالث المعطيات فهي خشية «القارة العجوز» من تزايد موجات الهجرة السورية إلى أراضيها، وهو الأمر الذي يمكن لحظه بوضوح عبر الانقسام الحاصل داخل «الاتحاد الأوروبي» تجاه الأزمة السورية والسبل المثلى للتعاطي معها، وفي ذلك الانقسام، تقف برلين وباريس في خندق لا يزال يرى في حصار السوريين وتشديد العقوبات عليهم هو الطريقة المثلى للتعاطي معهم، في حين يتخندق أغلبية الأعضاء الباقين وراء مواقف باتت مغايرة تماماً لتلك التي انتهجوها على امتداد عقد أو يزيد بترغيب وترهيب أميركيين بالدرجة الأولى، ولعل حال «التفلت» التي راح يبديها أصحاب هذا «الخندق» الأخير تمثل، بشكل ما، نوعاً من الانزياحات الحاصلة في نظام دولي بات يعيش مرحلة انتقالية حرجة لا أحد يعلم كم ستطول.
قد تحمل الأيام المقبلة تقارباً تركياً- سورياً على الرغم من رزمة الخلافات التي من الصعب حلحلتها بين ليلة وضحاها، لكن بعد المسافة يجب ألا يثني «العابرين» عن سلوك الطريق، وما يمكن أن يراكمه فعل «الحوار» لا تستطيع «القطيعة» أن تراكمه بالتأكيد.
كاتب سوري