سياسة الإنكار
| بقلم: أ. د. بثينة شعبان
في أول زيارة خارجية له بعد انتخابه للمرة الثالثة اختار رئيس وزراء الهند ناريندا مودي، روسيا، محطة لهذه الزيارة ولقاءاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أولاً في منزله كأصدقاء ومن ثمّ في اجتماعات رسمية في اليوم التالي.
هذه الزيارة مع كل ما حملته من مضامين جيوسياسية واقتصادية ومستقبلية أثارت حنق الغرب الذي أبدى استغرابه من الزيارة مع أن الرئيس الأميركي جو بايدن كما قال إعلامهم، قد أجرى لقاء حاراً مع رئيس الوزراء مودي لدى زيارته للولايات المتحدة في العام الماضي وربما بالغوا في تكريمه أملاً في استمالة الهند بعيداً عن روسيا، وهو الأمر الذي يُري سذاجة غريبة وقراءة مازالت تعتمد على تقييمهم للشعوب في زمن الاستعمار القديم غير آخذين بعين الاعتبار الوعي الذي تراكم لدى شعوب المستعمرات السابقة خلال هذه العقود وانكشاف حقيقة النظام الغربي الإمبريالي المتسم بالنفاق ونهب خيرات الشعوب وافتضاح المركزية الغربية على حقيقتها باعتبارها مصدر الحروب والأوبئة وإبادة الملايين من المدنيين العزل والتي لا هدف لها سوى استمرار هذه المركزية في نهب موارد الشعوب والمستعمرات قديمها وحديثها ومنع أي من حركات التحرر في العالم من تغيير هذه المعادلة.
في مقال نشرته في الثامن من تموز الجاري بعنوان: «مودي يحتضن بوتين»، اعتبرت صحيفة «الواشنطن بوست» الأميركية الزيارة مؤشراً لعلاقات عميقة بين روسيا والهند، وأضاف المقال في أول سطرين معبرين منه: «رغم جهود واشنطن لجذب رئيس الوزراء ناريندا مودي وعزل الرئيس فلاديمير بوتين فإن الزيارة تُري علاقات وثيقة مستمرة بين بلديهما». ويعيد المقال الذاكرة إلى الاستقبال الحافل والعشاء الفخم والمديح الذي حظي به مودي في البيت الأبيض والتعبير بأن العلاقة مع الهند هي من أهم العلاقات للولايات المتحدة.
لقد وجد الأميركيون اليوم أن مودي في روسيا ويصف الرئيس بوتين بصديقه العزيز ويتناقشان في توثيق التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري وتنسيق الخطوات في عدد من المحافل والمنظمات الدولية التي تشترك الهند وروسيا بعضويتها، على حين كان الناطق باسم الخارجية الأميركية يقول: «لقد أوضحنا للهند وبشكل مباشر مصادر قلقنا حول علاقتهم مع روسيا»، ولا يسع المرء إلا أن يبتسم ساخراً وهو يقرأ مثل هذه التصريحات وغيرها التي تعبّر عن العقلية الاستعمارية التي مازالت تسيطر على السياسة الغربية وخيبة أمل الولايات المتحدة من علاقة الهند بروسيا وعلاقة مودي بالرئيس بوتين وخاصة أن هذه الزيارة قد تزامنت مع اجتماع أعضاء «الناتو» في واشنطن حيث أظهر هذا الاجتماع أيضاً أن الدول الغربية تحاول تغطية الشمس بغربال ولكن أنّى لها أن تفعل ذلك؟
مجمل ردود الأفعال الأميركية على زيارة رئيس الوزراء مودي الهامة إلى روسيا وكل ما نجم عنها من توسيع آفاق التعاون والتفكير بمستقبل البشرية، وليس فقط مستقبل روسيا والهند، تُري أن أصحاب القرار في الولايات المتحدة منفصلون عن الواقع وكأنهم لم يدركوا بعد أن الهند اليوم دولة عظمى وقطب أساسي من أقطاب السياسة العالمية ولن ينفع معها تكريم رئيس وزرائها وتقديم عشاء فاخر له في البيت الأبيض لثنيه عن متابعة البحث عن مصالح بلاده في النفط الروسي بسعر تفضيلي للهند وعن كل ما يمكن أن يخدم اقتصاد بلاده ومكانتها سواء في البريكس وشنغهاي أو في كل المنظمات الأخرى التي تتشارك مع روسيا عضويتها والعمل على الإعلاء من شأنها في عالم المستقبل.
لقد كتب المفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز مقالاً بعنوان: «نهاية الاستشراق» وهو أستاذ الاستشراق المتميّز ومدرّس الاستشراق والكاتب المهم جداً في ثنايا وآفاق هذا المجال، وأشار في هذا المقال إلى تغير الظروف والاهتمامات والميزانيات والحاجات أيضاً في الغرب لهذا المجال وأنه تمّت الاستعاضة عنه بشبكة علاقات مخابراتية أو علاقات أخرى بين الغرب والدول التي يتناولها المستشرقون، ولكنّ المهم في هذا المقال هو الإشارة الناجعة إلى تغيّر الدول والظروف والأهداف التي كانت تدعو وتعمل على انتعاش وازدهار مثل هذا الحقل المعرفي، وبما أن الأستاذ بلقزيز هو خير من تحدث عن المركزية الغربية في مؤلفاته وفنّدها وفنّد انعكاساتها على الدارسين لها من أبناء الضاد والمتأثرين بها وبعض الذين أصبحوا حُبساءها غير قادرين على الإفلات من إطارها والانشغال في تأصيل تراثهم وفلسفتهم وفكرهم بعيداً عن ما زرعه المستشرقون في أذهانهم، فإني قرأت في عنوانه «نهاية الاستشراق» عنواناً آخر غير مكتوب إلا وهو «نهاية المركزية الغربية».
كل مجريات الأحداث التي نعيشها اليوم تؤشر دون خجل أو وجل، إلى نهاية المركزية الغربية على الرغم من رفض الدول الغربية لهذه الفكرة وتصرفاتهم وتصريحاتهم التي تشي بالوهم الذي ما زال يعتري عقولهم بأنهم هم مركز الكون وأنهم هم الذين يقرّرون مساره.
زيارة رئيس الوزراء مودي لروسيا تزامنت أيضاً مع زيارة رئيس وزراء هنغاريا إلى الصين ولقائه الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي أثار حنق دول الاتحاد الأوروبي وأن هذه الزيارة تعبّر عن خلل في بنية الاتحاد غير مدركين أن الانتخابات الأخيرة في فرنسا بغض النظر عن موقفنا السياسي من هذه الانتخابات، تُظهر توق الشعب الفرنسي أيضاً للتحرر من الهيمنة الأميركية وإعادة الاعتبار لكلمته وقراره في ما يخصّ شؤونه. كما أن ردود الفعل العالمية على حرب الإبادة المدعومة من الغرب ضد المدنيين الفلسطينيين العزّل في غزة قد برهن للعالم برمّته أن المركزية الغربية متوحشة حتى ضد مواطنيها إذا ما قرروا الإفلات من القواعد والقوانين التي خطّها المجمّع الصناعي العسكري لهم، فقد تمّ قمع المعارضة بعنف وكتم الإعلام الذي أصبح يليق بأعتى الديكتاتوريات التي عرفها التاريخ.
في الوقت الذي يعكف المشرعون الأميركيون على اتخاذ إجراءات قانونية لإخفاء حصيلة إبادة كيان الأبارتيد للمدنيين الفلسطينيين في غزة والعمل إعلامياً وسياسياً للتغطية على جرائم إبادة بشعة، وفي الوقت الذي تمعن الولايات المتحدة في إرسال القنابل الضخمة إلى إسرائيل لقصف منازل المدنيين ولاستمرار حرب الإبادة ضد المدنيين الفلسطينيين العزّل، يتشكل العالم الجديد بعيداً عن أنظارهم واهتماماتهم من قبل الأقطاب التي أيقنت خلال هذه الحرب الكاشفة أن النظام الدولي الذي يقوده الغرب قد وصل إلى نهايته المحتومة وأن دولاً أفريقية اليوم تشكّل تحالفاً استراتيجياً على الساحل الإفريقي أملاً في انضمام دول أخرى إليه في حين تطرح الصين خمسة مبادئ مهمّة للتعايش مع الهند وميانمار من عدم الاعتداء إلى المساواة والمنفعة المتبادلة إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية، على حين يعمل الرئيس بوتين على تطوير الاندماج الثقافي والمعرفي الأوراسي وتحقيق التبادل والمنفعة الاقتصادية المتبادلة بعيداً جداً عن كل ما يريده الغرب ويمكن له أن يفعله من حروب وقتل وإبادة وهيمنة وقمع للحريات الإعلامية ولحقوق الإنسان.
في هذا الوقت بالذات اكتشفت الشعوب التي كانت مستَعمَرة من قبل الدول الغربية أن الهوة كبيرة بين ما يدعيه الغرب وما يقوم به، واكتشفت حركات التحرر المقاومة أنها أقوى ممّا كانت تتصور وأن العدو أضعف بكثير ممّا درج على ادعائه، وأنها قادرة بالصبر والعزيمة أن تهزم أعتى قواه التي كان يعتبرها حتى وقت قريب لا تقهر. في هذا المناخ الدولي الجديد التي عملت دماء المدنيين الفلسطينيين الطاهرة على إذكائه لن تفيد مع الغرب بعد اليوم سياسة الإنكار والاستهجان، ولا بدّ لهم أن يضعوا أقدامهم على الأرض ليكتشفوا أنها تميد بهم وبالنظام المتوحش الذي أسسوه بقوة أسلحة الإبادة والدمار لخدمة مصالحهم فقط وأن البشرية اليوم في مكان آخر تعيد صياغة المستقبل في غفلة منهم.