قضايا وآراء

ترامب.. لا ضير في «جرح» يقرب من «البيت»

| عبد المنعم علي عيسى

لا تشكل محاولة الاغتيال التي تعرض لها مرشح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب خروجاً عن سياقات، سبق للبلاد وأن شهدتها على امتداد عمر كيانها الذي قارب نحو قرنين ونصف القرن، فمسلسل الاغتيالات البادئ بالرئيس إبراهام لينكولن 1856 عاد وتكرر مراراً خلال فترات بدت شبه منتظمة ليصل عدد المحاولات الناجحة إلى أربع، فيما عدد الفاشلة، المعلنة، كان قد تعدى الرقم 8 بعد محاولة توماس ماثيو كروكس التي جرت يوم الأحد الماضي، ومع ذلك فإن محاولة الاغتيال الأخيرة لربما تختلف في تداعياتها المحتملة عن كل المحاولات السابقة انطلاقاً من معطيات عدة أبرزها حال الانقسام، بشقيه العمودي والأفقي، التي يعيشها المجتمع الأميركي، ومنها حال الاستقطاب الحادة التي تبديها الكتل السياسية الأميركية والتي تمظهرت بـ«عنف لغوي» كان من المرجح أن يفضي إلى نظير له «دموي» قبيل نحو ثلاثة أشهر من انطلاق جولة الحسم في الخامس من شهر تشرين الثاني المقبل.

من الصعب الآن تحديد كم «الثمار» التي سوف تتساقط في جعبة ترامب، والتي سيكون كمها معادلاً حتماً لتلك التي سوف تفقدها جعبة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، لكن الراجح هو أن صورة ترامب «المدمى» ومن فوقه العلم الأميركي التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، كما النار في الهشيم، بعد ثوان من الحادثة سوف تكون ذات تأثير طاغ من المقدر له أن يطول، بالدرجة الأولى، معسكر «المترددين» الذين يقصد بهم أولئك الذين لم يحسموا مواقفهم بعد، ولربما تحولت تلك الصورة، بفعل معطيات تبدو الآن متوفرة، إلى «أيقونة» يتغنى بها الأميركيون، أقله عند شرائح واسعة منهم، لأمد غير قصير انطلاقاً من الخلل الواضح الذي أصاب «البصيرة» الأميركية، ويقف حائلاً ما بينها وبين تشريح العديد من الظواهر التي تكاثفت في الآونة الأخيرة حتى أضحى فعلها دالاً على تركيبة باتت تعاني من أمراض عدة، وهي تحتاج إلى مداواة بوسائل غير تقليدية، ولعل الحل الأنجع والإسعافي، الآن يكمن في خروج الذهنية الأميركية من الحمولات التي فرضتها نظريات عدة مثل «نهاية التاريخ» التي قال بها فرنسيس فوكوياما، و«صدام الحضارات» التي وضعها صموئيل هنتغتون، لكن من الصعب لفعل من هذا النوع أن يحصل إلا بظهور فكر نقيض لا بديل عن ظهوره، والراجح هو أن الساحة الأميركية باتت مهيأة لنوع كهذا من «الظهور».

صنف «مكتب التحقيقات الفيدرالي» الأميركي الحادثة بعد ساعة على وقوعها على أنها «محاولة اغتيال»، وعلى الرغم من أن فعلاً كهذا كثيراً ما يثير الإرباك في شخص المستهدف، وكذا في الدائرة المحيطة به أيضاً، إلا أن ترامب بدا متماسكاً، وبعد ثوان من إصابته وقف رافعاً قبضته ومنادياً «القتال.. القتال.. القتال»، ولعل الفعل مثير للدهشة بدرجة كبيرة، فهو في اللحظة التي كانت حياته تتعرض فيها لتهديد حقيقي عمد إلى الاستثمار في الحدث بطريقة درامية، لكأني به كان متحضراً منذ وقت لفعل من هذا النوع يمكن له أن يقع في أي لحظة، والراجح هو أنه بسلوكه ذاك استطاع الحصول على المزيد من النقاط في جعبة كانت تتطلب المزيد على الرغم من «الخواء» الذي تعانيه جعبة الخصم، فالرجل لا يزال يواجه إدانات قضائية جنائية ذات مفاعيل عدة، وإن كان قد استطاع، خلال مواجهته لتلك التهم، أن يحيل الكثير منها إلى خانة «المؤامرة»، والتي أشار تلميحاً، في مرات عدة، إلى أن من يقف وراءها هو «الدولة العميقة» التي خاض صراعه الطويل معها إبان ولايته الممتدة ما بين عامي 2017 – 2021.

أخطأت رصاصة توماس كروكس هدفها، فلم تصب ترامب في مقتل، ومن المؤكد هو أنها لو نجحت لكانت أدخلت البلاد في أتون حرب أهلية قياساً لمعطيات جدية تشير إلى أن هذه الأخيرة قد دخلت مرحلة استكمال شروطها منذ أن وطأ ترامب أرض «البيت الأبيض»، من دون أن يعني ذلك أن ترامب، أو حتى إدارته، هو الذي يتحمل المسؤولية كاملة عن دفع البلاد نحو اتجاه كهذا، والرصاصة إذ أخطأت هدفها بإصابة «صدغ» ترامب فإنها تكون بذلك اختارت التوجه نحو «بدن» بايدن الذي أصابه الإعياء بدرجة لم يعد هناك من جدوى لـ«عمليات التجميل» التي يحاول فريقه المقرب منه إجراؤها له، على الرغم من أن العديد من هؤلاء أضحى موقناً بلا جدوى ذلك الفعل، والراجح أن «التعاطف» الذي كسبه ترامب في أعقاب حادثة الأحد سوف تعجل من خيار الديمقراطيين، الآخذ بالتبلور منذ حين، والقاضي بضرورة الدفع ببديل لبايدن ليكون في مواجهة ترامب في شهر تشرين الثاني المقبل، لعل الفرصة تكون أكبر من تلك التي توفرها «كاريزما» الرئيس الديمقراطي التي فقدت الكثير من زراكشها، وباتت على وشك أن تظهر بصورة لا تليق بما تسعى إليه.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن