استراتيجيا الوقوف على العتبات
| عبد المنعم علي عيسى
كان من شأن الساعات الأربع الفاصلة ما بين الثانية عشرة ظهراً وبين الرابعة عصراً من يوم الجمعة 22/1/2016 أن تحدد المدى الذي يمكن أن يذهب إليه «الدولي» (وهو هنا يتماهى مع الأميركي على اعتبار أن الموقف الروسي معروف) في دعم العملية السياسية في سورية، ولم تكد التسريبات تكشف عمق ذاك المدى كالإعلان عن أن الاجتماع سيعقد بمن حضر حتى بدأت الهرولة ثم سباق الـ100م الذي كان كاريكاتورياً في مسار قُدَّر للمعارضة السورية أن تكون فيه وهو ما اختاره الآخرون لها وبالأحرى ما اختارته عواصف المصالح التي كان لكل رياحها نصيب فيها ما عدا رياح المعارضة السورية.
حتى تلك اللحظات التي تقرّر فيها أن يكون وفد الرياض المُصغّر على أعتاب قصر الأمم المتحدة في جنيف لا يلجه إلا إذا ما تحققت مطالبه التي اشترطها، حتى تلك اللحظات لم يكن الوفد يستشعر بأن كل ما يجري أمامه هو حقيقي ولا بد من أن تكون هناك ملحقات لتلك الصورة فقد كان من الصعب الاقتناع بأن واشنطن قد قررت التخلي عن الخلاّن الأقدمين بين ليلة وضحاها.
عمدت واشنطن عبر نموذج الدبلوماسية البالغة النعومة إلى فرض انسياق وفد الرياض نحو منحدرات جنيف، كانت الآلية في ذلك تقوم فقط على إعادة حجم ذلك الكيان إلى حجمه الطبيعي بعد أن كانت قد حقنته بآلاف إبر السيليكون حتى بدا بالوناً أهم ما فيه أن الحجم المعطى أو المقدر له لا يعبر إطلاقاً على الثقل- والثقل النوعي الذي يتمتع به فعلياً على الأرض.
كانت عمليات الإخراج المسرحي الرديئة هي التي أفضت إلى كل تلك الصورة المأزومة فالأمر وإن كان صعباً إلا أنه كان من الممكن البحث عن مخارج أخرى تكون أكثر إيجابية مما كان، فإعلان وفد الرياض المصغر بأنه ينتظر القرار الذي سيصدر في أي لحظة عن اجتماعات الرياض العاملة 24/24 هو أمر لا تحتمله الحقائق ولا الوقائع بالتأكيد فالقاصي والداني يدرك بأن قرار المشاركة النهائي متخذ قبل وقت ليس بالقصير ولا أظن أن الائتلافيين- على مختلف درجاتهم مقتنعون بأن قرار مشاركتهم من عدمه هو ملك أيمانهم إذ لطالما أدركوا جميعاً بأن ذاك القرار هو أكبر من حجم كيانهم بل أكبر من حجوم داعميه (تحديداً السعودية وتركيا) ففي ظل هذه الأوضاع الإقليمية الهشة التي تشهد تآكلاً ذاتياً لقدرات كل منهما سوف يكون من المستحيل أن يذهب أحدهما –أو كلاهما- نحو مواجهة مع واشنطن فالظروف التي يمكن أن يحقق فيها الإقليمي نقاطاً رابحة على الدولي هي غير هذه الظروف تماماً وهو ما تدركه أنقرة والرياض.
بالتأكيد سيكون فهماً سياسياً كارثياً إذا ما كان صانع القرار السياسي في وفد الرياض مقتنعاً في العمق بأن الاجتماعات المستمرة خلال 72 ساعة التي سبقت انطلاقة جنيف3 كانت هي التي أفضت إلى اتخاذ القرار العتيد أو أنها كانت فعلاً لأجل اتخاذه أصلاً، فالصحيح هو أن تلك الاجتماعات المستمرة كانت بالدرجة الأولى مطلباً تركياً وسعودياً وبمعنى أدق تثبيتاً لمطالب أنقرة والرياض اللتين كانتا تخشيان أن تؤدي الضغوط التي يمكن أن يتعرض لها الائتلاف إلى تنازلات في ربع الساعة الأخيرة قبيل الإعلان عن قرار المشاركة كالقبول (مثلاً) بمشاركة الأكراد وهو ما يفسر عسكرة كل من السفير التركي عمو أونهون وكبيرا لاستشاريين للاستخبارات التركية فرقان جاينيه على مدار تلك الاجتماعات لا يفارقونها قبل الاطمئنان على نتيجتها.
الآن وبعد انطلاقة جنيف3 فإن الموقف السعودي الحالي يقوم بشكل أساسي على مرتكزات ثلاثة هي 1- أن حضور المفاوضات لا يعني إطلاقاً السعي إلى إنجاحها. 2- المماطلة إلى الحدود القصوى لتمرير الوقت. 3- استمرار السعي لتثبيت الصورة في الخارج بأن الرياض ليست عاملاً سلبياً في التسوية السورية.
على حين أن الموقف السعودي اللاحق فإن الرياض ستعمد وبكل ثقلها على تغيير المشهد الميداني السوري إن أمكن وفي الوقت ذاته بذل جهود حثيثة لتغيير الموقف الأميركي المستجد في ما يخص التسوية السورية لهذا فإن التحليلات التي تشير إلى أن الرياض إنما تراهن في سياساتها على مرحلة ما بعد أوباما لا تملك الكثير من الواقعية فزمن العام (أو أحد عشر شهراً هي ما تبقى من ولاية باراك أوباما في البيت الأبيض) هو زمن قصير جداً لإحداث اختراق نوعي يمكن أن يؤدي إلى تسوية سياسية لأزمة باتت موغلة في الزمن وفي الجغرافيا والأهم في النفس البشرية.
أما الموقف التركي الحالي فهو يقوم بالدرجة الأولى على استراتيجيا كبرى يمكن القبول بها في ظل هذه الأوضاع الصعبة التي تعانيها أنقرة وهي تغييب الأكراد السوريين عن المشهد بأي ثمن كان ولو بطريقة المقايضة (وهو ما حدث بمقايضة تجميد حضور الأكراد في مقابل استبعاد العسكريين الذين اعترضت موسكو عليهم منذ أن أعلن وفد الرياض عن ممثليه في المفاوضات المقبلة على حين أن الموقف التركي اللاحق لا يبدو مختلفاً كثيراً عن نظيره السعودي وأنقرة ستعمل هي الأخرى أيضاً على تغيير المشهد الميداني السوري إن أمكن بعدما كان هذا الأخير قد تغير على مدار الأشهر الثلاثة المنصرمة كثيراً خصوصاً فيما يهم الامتدادات التركية داخل الحدود السورية وهي تدرك الآن أن خروج ورقة حلب من بين يديها سيكون من شأنه خروجها تماماً من المعادلة السورية عبر الخروج من المعادلة العسكرية، كما تدرك أن إرضاءها باستبعاد الأكراد لم يكن كاملاً بل (نصف إرضاء) إن لم يكن أقل من ذلك بمعنى أن أحد أهم العوامل التي حسمت الغياب الكردي من مشهدية جنيف3، كان يقوم على أن واشنطن ترى بأن وقت المجابهة مع أنقرة في سورية لم يحن بعد قياساً إلى نضج الطبخات الأميركية التي تكون عادة على نار هادئة تتخللها فترات استراحة تحددها الظروف التي استجدت ما بعد وضع اللمسات الأخيرة على الخطط الموضوعة.
من تابع المشهد في جنيف1 (21/1/2014) وفي جنيف3 (29/1/2016) سيرى أن هناك تغيراً جذرياً فيما بين الاثنين سواء أكان في المشهد الداخلي أم في شبكة التحالفات الرافعة وثقلها على الأرض شيء واحد راسخ ولا يتغير هو رعونة وانقياد الائتلافيين فعندما كانت الأزمة الأوكرانية (تشرين الثاني 2013) تشكل عاملاً ضاغطاً على موسكو قبلت هذه الأخيرة بإطلاق يد واشنطن فيما يخص أمر المعارضة السورية وتسيير كامل أمورها، إلى أن شهدنا تلك الصورة الممسوخة عبر إيماءة روبرت فورد والسفير الأميركي لأعضاء الوفد السوري المعارض بالخروج من قاعة الاجتماع والإعلان عن فشل جنيف2، هذا الأمر لا يزال بالتأكيد حاضراً ولسوف يكون الائتلافيون قادرين على تكراره واستنساخه ثم تكراره من جديد.
في السياسة يجب أن يأخذ صانع القرار السياسي على عاتقه الموازنة فيما بين البرهات الثلاث: الماضي– الحاضر– المستقبل ومن شأن الإخلال بالتوازن القائم فيما بينها أن ينجم عنه أمراض سياسية مستعصية كداء المحافظة السياسية الذي أصيبت به المعارضة السورية وهو ما تختصره مقولة: إما كل شيء وإما لا شيء، التي ما انفكت ترددها تلك المعارضة بعيداً عن قراءة التوازنات العسكرية وكذلك السياسية.
إذا ما أردنا لحظ مقاربات وفد الرياض لتلك المعطيات السابقة فإن ذلك يتطلب سرداً وتحليلاً طويلين وتبريراً لحلقات لا تنتهي من الخيبات التي وصلت حدود البيع بالمزاد العلني قبل أن يستطيع خالد خوجة رئيس الائتلاف السوري المعارض أن يختصر كل ذلك الجهد ببلاغة موجزة وفريدة من نوعها عندما أعلن في 30/1/2016 أن «دي ميستورا قد بدأ باتباع ولاية الفقيه».