ثقافة وفن

دمشق وحبر العشق والعرفان من محبيها … هام في حسنها ابن عربي حين انكشف عند أبوابها بعض سر الكون فتصوف العشق فيها حتى ارتقى

| إسماعيل مروة

حين راجعت الدواوين الشعرية القديمة والحديثة التي توفرت بين يدي لم أعثر إلا على امتداح دمشق وحبها عند الشعراء، دون النظر إلى بلدانهم ومواقفهم وعقائدهم، وحين قرأت «الديوان الدمشقي» للصديق الراحل محمد المصري الذي جمع ما قيل في دمشق قديماً وحديثاً أكد أنه لم يعثر على شعر ينتقص الشام غير ثلاثة أبيات ضاقت سبل قائلها في الحياة، وما سوى ذلك فالشام دمشق معشوقة الإنسان، ولحظة الافتتان، وكثيرة هي النصوص والكتب التي قيلت في دمشق، ولكن كتاباً وصل إليّ (الرسائل الدمشقية) الذي جمعه سامي كليب وفيصل جلول، والذي عرّفاه بإيجاز «واحد وعشرون كاتباً عربياً يروون يومياتهم الشامية» فماذا عن هذا الكتاب؟ وماذا يروي أصحابه؟

دمشق الملاذ والحنان

في هذا الكتاب جمع لطيف وشامل لعدد من الكتاب العرب، بعضهم عاش في دمشق سنوات، وبعضهم درس في جامعتها ونهل العلم فيها، وبعضهم جمعته الإيديولوجيات، وعدد اقتصر على زيارات، والأكثر طرافة هو ذلك الحلم الذي يدور في أرجاء دمشق ولكنه لم يطأه بقدمه أرض دمشق، والأكثر أهمية في هذا الكتاب الوجداني والتوثيقي أنه جمع عدداً من الأسماء المهمة في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وأظهر دور دمشق في بثّ المعرفة والثقافة والعلم في معاهدها وجامعتها لكل أبناء الوطن العربي، وببعثات في سورية تتكفل سورية بنفقاتها، إضافة إلى احتضان دمشق عبر السنوات الطويلة للحركات الطلابية والتحررية التي أنتجت عدداً كبيراً من القامات القومية، عدد منهم شارك في هذا الكتاب، ومن الشخصيات التي شاركت في الكتابة (إبراهيم كمال الدين- البحرين، إيلي الفرزلي- لبنان، حسين العمري- اليمن، حسين شعبان- العراق، حكيم زموش- الجزائر، رشاد أبو شاور- فلسطين، سامي كليب- لبنان، سعدة الصابري- ليبيا، الصادق بوقطاية- الجزائر، صقر أبو فخر- فلسطين، عبد العزيز المقالح- اليمن، عبد الله الأشعل- مصر، علي دراع- الجزائر، عمرو ناصف- مصر، فاضل الربيعي- العراق، فيرايمين- لبنان، فيصل جلول- لبنان، كريم أبو صلاح الدين- الجزائر، كريم إفراق أحمد- باريس، محمد حسب الرسول- السودان- نايلة ناصر- لبنان).

والمميز في هذا الكتاب والمفيد في الوقت نفسه بأنه ليس كتاباً سياسياً أو تأريخياً أو تكريمياً، بل هو كل هذه الأنواع مجتمعة، يسلكها الوجدان والحب والانتماء، ولا يدفع إليها واجب طارئ، ولا يجمعها مؤتمر يدعى إليه الكتّاب.. إنه تعبير دافئ واقعي لدمشق الملاذ الذي كان ولا يزال، وإلى دمشق الحلم الذي يراود كل عروبي صادق العروبة..

الزمن الممتد

هناك كتب كثيرة كتبها كتابها فرادى ومجتمعين عن دمشق، وهي تعبر عن حالة ماضوية أو راهنة أو مستقبلية، تعالج حالة سياسية أو فكرية أو أدبية أو تاريخية، لكن هذا الكتاب يعالج الزمن الممتد لدمشق، فذا يبحر في المدينة وتاريخها العظيم، وآخر يعبر في حلمه عن جغرافية المكان ورمزيته وأبواب دمشق، وثالث يدور فينا في شوارع دمشق في الأربعينيات والخمسينيات عندما كان طفلاً يدور بين بيوتها وأسواقها ومدارسها حين يستقربه المقام وكاتب آخر عروبي ناله شظف العيش والظلم والبؤس في بلده، فكانت دمشق بقوانينها وناسها المكان الذي أعطاه العلم والأمان بالمجان، ويرسم صورة لدمشق في ذلك الزمن الممتد حتى ثمانينيات القرن العشرين، وفي هذه الصورة ينصف دمشق التي يجتمع فيها العرب والناشطون من موريتانيا والمغرب إلى البحرين وعمان، وجميعهم يعيشون ظروفاً صحية مجانية في ميادين التعليم، ويمارسون أنشطتهم وعلومهم ورحلاتهم وحياتهم لتصبح دمشق جزءاً مهماً منهم، ولا تكتفي بأن تكون المكان..

وهذه الدراسات الغنية تستمر إلى زماننا، وتقدم رؤى سياسية تقف عند الحرب على سورية كما فعل سامي كليب في قراءة جد عميقة، وفي الكتاب دراسة عميقة أيضاً فيها رؤى وسياسة، بل أكثر من دراسة لفيصل جلول وإيلي الفرزلي وفيرايمين.. رؤى قدمها رجال أدب، ورجال سياسة ورجال فكر، ورجال صحافة، أسهم فيها عدد من المثقفات والمثقفين الذين قد لا يعرف القارئ بعضاً منهم، إلا أنه سرعان ما يتوقف عندها مذهولاً بكمّ الحب والانتماء الذي يحمله لدمشق وسورية، هذا الحب الصادق لكوكبة من فرسان السياسة والأدب والصحافة الذين تنادوا لتدوين رسائلهم الدمشقية ليومياتهم الشامية، وبعضهم فارق الحياة رحمه الله، وتلبيتهم للنداء كانت نابعة من الحب وحده ولا شيء سواه، فالنداء واجب روحاني وقومي، واللباس الذي ارتداه هذا الحب كان دعوة لحب دمشق أرسلت إليها، ولم تصنع على أرضها أي تكفل العشاق بأوراق رسائلهم وأحبارها وأقلامها، ولم تكن هذه الدعوة تلبية لحافز داخلي في دمشق، ولا تلبية لدعوة نشر محلية، إنه الحب الدافع الوحيد الذي حوّل دمشق إلى قداسة روح في زمنها الماضي والحاضر ليلتف حولها الجليلات والأجلّاء في مولوية للعشق الصوفي الممزوج بالكثير من الذكريات والانتماء والامتنان.

تعويذات للحب

إبراهيم كمال الدين: ورغم قصر فترة وجودي في دمشق لكنها كانت مفيدة لي كثيراً حيث شعرت بالأمان وبأنني في بلدي؛ الجميع هنا يتعامل معك برقي حضاري وأينما ذهبت فأنت محط ترحيب حيث إن دمشق يخفق قلبها لكل عربي ولا ضير إذا سميت (قلب العروبة النابض)، وغادرتها وكلي شوق إلى العودة إليها ثانية، وبعد رحلة عمل في قطر والسعودية عدت إليها طالباً في كلية طب الأسنان التي لم أوفق في إكمالها.

إيلي الفرزلي: إنه ليس صراعاً في سورية، وليس صراعاً على السلطة كما حاول كثيرون تظهيره وكأنه صراع معزول عن الأطماع الخارجية، بل هو صراع على سورية نفسها، ربما بوقود سوري، ضمن السياق التاريخي الممتد منذ آلاف السنين.

د. حسين بن عبد الله العمري: والتحقت بمدرسة التطبيقات التي كان قد سبقني إليها زميلان هما عبد الولي القوسي ويحيى إبراهيم- رحمهما الله- وهما في مثل سني في حدود الرابعة عشرة، وأربعة أو خمسة آخرون أكبر سناً منا التحقوا بمدرسة التجهيز (الثانوية)، والكل يسكن في مدرسة صناعية داخلية تقع في شارع (زقاق الصخر)، الممتد من ساحة قصر الضيافة إلى قرب رئاسة الأركان ومديرها شخصية كبيرة هو المربي الصارم الأستاذ الأحدب، فكان الطعام والنوم بها في شتاء شهر كانون الأول 1957 البارد، وشاهدنا الثلج للمرة الأولى في حياتنا، وكان ذلك قبل نحو نصف قرن من الآن حيث أتيح لي، وعلى مدى عامين معرفة دمشق الشام قلب العروبة النابض، وأهلها المحبين أينما حللنا، وكم كان مدير مدرستنا المرحوم المربي (موفق الحويجات) حدوباً علينا، ومن ذلك إدراكه شدة البرد علينا ونحن بملابس خفيفة فاشترى لنا معاطف تمكنا بها من مواجهة ذلك البرد والثلج اللذين لم نكن نعتادهما.

د. عبد الحسين شعبان: دمشق مثل بغداد شذبتني وساهمت في اعتدالي وزادتني مرونة وتسامحاً، وملت فيها أكثر فأكثر إلى قبول الآخر واحترام «حق الاختلاف»، وتلك سمة التمدّن، ومعنى ذلك أن دمشق دمشقتني، مثلما بغداد بغددتني، أي إنهما مدنتاني، فالدمشقة والتبغدد معناهما، التمدّن، والتحضر.

حكيم زموش: كنت أحب أن أندمج في الخليط البشري، خليط مختلف الأديان والأعراق. خليط لا يفضي إلى حديث عن العرق والدين، خليط هو صورة مصغرة لمجتمع تراكم بناؤه هكذا عبر الأزمنة، مجتمع هو في النهاية ما يريد الغرب الوصول إليه اليوم، مجتمع علماني، حر، متعدد الأطياف والأعراق، ولكنه متجانس في العيش بثقافة واحدة وبطريقة دمشقية مخلصة لتاريخ البلد وإرثه.

رشاد أبو شاور: آنذاك، منتصف الخمسينيات، والستينيات، كانت دمشق تضج بالنشاطات الثقافية، بالمحاضرات في منتدياتها، بالأماسي الشعرية، وكشاب بدأ يقرأ انحزت لقصيدة التفعيلة، وسعدت بسماع الشاعر الكبير خليل حاوي في مقر الاتحاد العام لطلبة فلسطين، وكان مقره في الجسر الأبيض، ومنه سمعت مباشرة قصيدته الخالدة: الجسر..

سامي كليب: لابد من البحث عن الباب الثامن للعبور منه صوب سورية المقبلة… الأبواب السبعة ما عادت تكفي. لعل خطأ السوريين أن كل قسم منهم كان يدخل من باب وتحت كوكب، ويعتقد أنه باب الله المختار.. لابد من دخولهم جميعاً عبر الباب الثامن.. مفتاحه في كل قلب سوري، وفي كل قلب محب لسورية.. على حافات ذاك الباب الثامن فقط سيزهر مجدداً الياسمين.

سعدة الصابري: وها نحن اليوم بعد كل هذه التجاذبات في سماء سورية والتناحر على أرضها، والتكالب على حضاراتها وثرواتها، نراها عصية على الأعداء والمتربصين بها، فلديها من المآذن والأجراس ما يكفي لصم آذانهم ومن البواسل ما يلزم لصد عدوانهم، ومن النساجين ما يكفي لغزل شباك تفشل مخططهم لتقسيمها، ومن السواعد الوطنية ما يعيد إعمار ما دمروه منها، ومن الياسمين ما يمحو رائحة الدم ومن أجناس وألوان البشر والثقافات ما يجعل منها كوكباً قائماً بذاته.

الصادق بوقطاية: قاسيون الساهر على دمشق، هذا الجبل الأشم يجول بك وأنت واقف على قمته عبر آلة الزمن الموسومة بالحنين، فتتراءى أمامك حقب تاريخية مميزة مضت بأحداثها وشخصياتها. ورجال عظماء وعلماء مروا من هنا وعاشوا هنا ثم تركوا بصماتهم في فضاء الشام الرحب، على قمة قاسيون تتساءل: ومن غير الشام يمكنه أن يتفوق في صناعة الحضارة وفي إثراء الحضارة والإنسانية؟

صقر أبو فخر: من دون دمشق سنُمسي متروكين في العراء مثل خيمة في الريح، أو مثل كنيسة مهجورة، أو مثل منارة محطمة على شاطئ بعيد.. ودمشق الجريحة هي تاريخنا المكلوم ونزفنا الراعف وحاضرنا الراعب..

د. عبد العزيز المقالح: أين دمشق الآن؟ دمشق الشعر والعروبة؟ أين جماليات المكان وما أبقى التاريخ المتقلب من جماليات الزمان على كل زاوية مما يصعب على الكلمات أن تقول بكل مرارة وحسرة: هي الآن دمعة بعد أن كانت ابتسامة، وهي جرح نازف بعد أن كانت أغنية فيروزية تملأ الفضاء العربي طرباً وبهجة.

د. عبد الله الأشعل: وكان الفصل الأخير استخدام هذا المعسكر الصهيوني للإرهاب أداة للنيل من معسكر المقاومة.. ومن أسف أن الجامعة العربية تخلت عن هويتها بعد أن سيطر عليها المعسكر الصهيوني.

علي دراع: في السياق لعبت دمشق دوراً بارزاً وفعالاً في بناء الدولة الجزائرية الجديدة حيث أرسلت إلى الجزائر المستقلة أفواجاً من الخبرات في كل الاختصاصات، من الأطباء والمهندسين والمعلمين والأساتذة، كما ساعدتنا بالمعدات والسلاح والمال وغير ذلك من الوسائل البشرية والمادية.

عمرو ناصف: على أية حال، فالجنسية، لن تزيد أو تنقص من إيماني الراسخ بأن من لم يكحل عينيه بالشام، لم يعرف نعمة الإبصار بعد. ومن لم يتوضأ صدره بعبق ياسمينها ما استوى على عرش الطهر بعد. ومن لم يذب في هواها لم يعتل مراتب العشق بعد.. لم يعرف عاصمة الجنة بين ثراها والثريا بعد.

فاضل الربيعي: أطعمتني من خبزها، وأعطتني من دفئها دفئاً، لقد عشت في مدينة كان السكان فيها يعاملون العراقي لا كهارب أو منفيّ أو لاجئ؛ بل كمواطن سوري.

فيرايمين: دمشقُ وفيةٌ لكل العصور، أكان عادلاً العصر، أم جائراً، ولكنه تراكم ثقافات كما هي الحال مع الحانات أو الخانات، أو الحمامات ولو أن العدد تقلص كثيراً.

فيصل جلول: ثقافة المدينة وأهلها التي نستدل عليها من أسماء الشوارع والساحات والأحياء تفصح عن ذلك الحذر الكبير الذي ميز تعاطي الغربيين مع حكومات الشام بعد الاستقلال.

كريم أبو صلاح الدين: ودمشق بموقعها وخصائصها كانت ملاذاً آمناً لكثير من الزعماء والعلماء والشعراء والثائرين، ومقصداً لبعض القوميات والأقليات التي عانت الاضطهاد كالشراكسة والألبان والبوشناق والأرمن، وإليها لجأ العرب الذين ابتلوا بالاستعمار من المشرق العربي أو من المغرب.

د. كريم إفراق أحمد: لم تطأ قدماي دمشق قط، وكل ما وصفته تواً هو تفصيل الزيارة التي أحلم بالقيام بها إلى هذه المدينة العريقة ذات يوم أرجوه قريباً.

د. محمد حسب الرسول: والشام التي كانت سند العرب وموئل غوثهم، يخونها اليوم بعض العرب بائتلافهم في محور الدماء والدمار مع أعداء الأمة، فتدفع ثمن استغلالها وسلامة خياراتها ثمناً غالياً.

نايلة ناصر: فدمشق لم تكن يوماً بالنسبة إلي مجرد أسواق ومطاعم وفنادق ومتنزهات. كانت، وما زالت في قلبي ووجداني وستبقى ما بقيت، المكان الحميم الذي أحن إليه كما أحن تماماً إلى بيروت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن