ثقافة وفن

عبد اللـه البردوني.. شاعر اليمن وفارس الشعر الأصيل … صور الأشياء بدقة فاقت قدرة المبصرين من المبدعين .. فتفوق من ظهوره الأول في مهرجان أبي تمام

| أنس تللو

شاعرٌ ضريرٌ أراد أن يثبت قدرته الأدبية بين المبصرين، فكان له ذلك، بل لقد حقق نجاحاً كبيراً وفوزاً ساحقاً.

البردوني كان مثالاً صارخاً على أن هناك جواهر نادرة نفيسة لا يكشفُها لمعانُها ولا يشير إليها شدةُ بريقها، إنها تحتاج إلى عينٍ فاحصةٍ دقيقة، وخبرةٍ وافيةٍ عميقة.

مهرجان أبي تمام

بدأت قصة البردوني حين دعي عام 1971 إلى الموصل للمشاركة في المهرجان الذي يحتفي بمناسبة مرور ألف سنة على وفاة الشاعر أبي تمام، وكان بين شعراء كبار مثل محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي وعمر أبو ريشة وغيرهم، وقد قرؤوا جميعاً قصائدهم العظيمة التي أثنت على الشاعر الكبير أبي تمام وغاصت في تفاصيل شعره العميقة، وحين نودي على اسم عبد اللـه البردوني فوجئ الجمهور برجل قصير القامة أشعث الشعر رث الثياب يعتلي المنصة، ما حدا بالبعض إلى مغادرة القاعة، ولما بدأ البردوني بإلقاء قصيدته التي يخاطب فيها أبا تمام بصوت أخَّاذ جميل وبأداء ممتع مبدع ؛ خيَّم على القاعة صمت مهيب.

إعجاب وإجماع

واستمر البردوني، وكان كلما يتوقف عند مقطع تلتهبُ أيدي الجمهور بالتصفيق، وكلما انتهى التصفيقُ يعودُ البردوني ليؤججَ حماسةَ الجمهور بعباراته الحادةِ وكلماته العميقة.

لقد قال البردوني قصيدة يعارض فيها قصيدة أبي تمام معارضة شعرية، فأبو تمام كان يرى أن سلطة القلم أي الثقافة والعلم يجب أن تنحصرَ في مكانها الصحيح، لدى العلماء والفقهاء والشعراء، أما المنجِّمون فلا مكان لهم في حدود هذه السلطة، ومشهورةُ هي قصيدةُ أبي تمام التي يقول فيها:

السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتبِ
في حدِّهِ الحدُّ بينَ الجِّدِ واللعبِ
بيضُ الصفائحِ لا سود الصحائفِ
في متونهن جلاءُ الشكِّ والريَبِ

حضور الماضي

أما البردوني فقد تجاوز عاملَ الزمن، واستدعى أبا تمام ( حبيب بن أوس الطائي) بعد ألف عام، واستعرض له التاريخ، وأخذ يُجري تقاطعاً بين حياته وحياته وبين الموصل واليمن، وبدأ قصيدته الخالدة، ومنها:

ما أَصْدَقَ السَّيْفَ! أن لَمْ يُنْضِهِ الكَذِبُ
وَأَكْذَبَ السَّيْفَ أن لَمْ يَصْدُقِ الغَضَبُ
مَاذَا جَرَى يَـا أَبَا تَمَّـامَ تَسْأَلُنِي؟
عَفْوَاً سَأَرْوِي وَلا تَسْأَلْ وَمَا السَّبَبُ
مَاذَا فَعَلْنَـا؟ غَضِبْنَا كَالرِّجَالِ وَلَمْ
نصدُق وَقَدْ صَدَقَ التَّنْجِيمُ وَالكُتُبُ
حَبِيبُ هَذَا صَدَاكَ اليَوْمَ أَنْشُدُهُ
لَكِنْ لِمَاذَا تَرَى وَجْهِي وَتَكْتَئِبُ؟
مَاذَا؟ أَتَعْجَبُ مِنْ شَيْبِي عَلَى صِغَرِي؟
إِنِّي وُلِدْتُ عَجُـوزَاً كَيْفَ تَعْتَجِبُ؟

وقف الحاضرون إعجاباً، وظل التصفيق يتوالى ثم التفَّ حوله العشرات في القاعة، وكانت قصيدة البردوني بحق هي نجمُ المهرجان.

عبدالله البردوني وجهوده

وُلد الشّاعر عبد اللـه بن صالح البردوني في قرية البردون في اليمن عام 1929، وتوفي عام 1999، وقد عُرف عنه أنه بارع مجدّد، ويمتلك مقدرةً عظيمةً على تطويع العناصر الأدبيّة والفنيّة المتنوّعة في أشعاره؛ فكانت أشعارُهُ ملأى بالاستطرادات الجميلة التي استمدّها من مصادر مختلفة.

عمل البردوني عدة أعمال، فكان قاضياً ومحامياً وأستاذاً للأدب العربي ورئيساً لاتحاد الأدباء في اليمن، وموظفاً في إذاعة صنعاء.

وقد انطلق في رحلة عطاء كبيرة، تطرق فيها إلى تاريخ الشعر القديم والحديث في اليمن، فهو ليس شاعراً فقط، بل له مؤلفات عديدة، وله اثنا عشر ديواناً شعرياً، منها:

من أرض بلقيس، في طريق الفجر، مدينة الغد، لعيني أم بلقيس، جواب العصور.

وله العديد المؤلفات الأدبية الفكرية، منها:

رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه، قضايا يمنية، فنون الأدب الشعبي في اليمن.

لقد غدا اسم البردوني اسماً لامعاً في الساحة الأدبية، وتحدث عنه الأدباء والنقاد والشعراء، وقد قدَّم الدكتور وليد مشوح رسالة دكتوراه (الصورة الشعرية في شعر عبد اللـه البردوني) أطنب فيها في وصف وتحليل شخصية وشعر البردوني، وبيَّن فيها الآلية الدقيقة التي مكَّنت البردوني على الرغم من فقده لبصره من أن يصور جزئيات الأشياء بدقة فائقة، مستعرضاً من خلال ذلك الشاعرية الفائقة والخيال الجامع والذاكرة الحية القوية التي يمتلكها البردوني.

حقاً إن البردوني يعتبر من أهم وأشهر شعراء العربية في القرن العشرين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن