قضايا وآراء

المسيّرة اليمنية والرد الإسرائيلي.. هل يقوم نتنياهو بالأعمال القذرة نيابة عن الاوربيين؟

| فراس عزيز ديب

بالقدر الذي نتحدث فيه عن أن العالم أصبح قريةً صغيرة بعد الثورة الرقمية المذهلة التي نعيشها، إلا أن الوقائع أثبتت كذلك أن تلك النهضة الحضارية قد تكون فعلاً طارئاً غير مأمون الجانب يدفعنا لتجنب تسليم رقابنا وجعلها أسيرة للتكنولوجيا.

قبل أمس عاش العالم أجمع ساعاتٍ رهيبة سببها خلل تكنولوجي، لحظات عدة فقط هي المسافة التي فصلت بين هيبة الرقم عندما يقترن بالتكنولوجيا وقدرته على كسر الحدود، وقدرة الحدود رغم أنف التكنولوجيا على زيادة أرقام العزلة، ساعات حولت العالم أجمع إلى جزرٍ متباعدة، خطأ تقني عزل حتى إشارات المرور في العاصمة الفرنسية باريس وقبل أيام قليلة من انطلاق دورة الألعاب الأولمبية، فما بالنا بما حدث في المصارف والمطارات، لكن اللافت في كل هذه الهمروجة أن الضحية الوحيدة في كل ما جرى وكالعادة هي الحقيقة، ضحية حالت دون الإجابة عن التساؤلات الملحة: هل هو عطل فني أم تقني عادي؟ لا أحد يعرف لأننا كمستهلكين لهذه التكنولوجيا سنبقى تابعين لما تبثه بيانات الشركات الكبرى والدول العظمى التي تقودها من دون أن نجرؤ على الاعتراض، لأن شركات كهذه هي جزء من منظومة الأمن في تلك الدول، إلا إن كنا نظن مثلاً بأن إمبراطورية مايكروسوفت هي جزء مستقل عن القرار الأميركي!

هل هو هجوم سيبراني رفيع المستوى؟ لكن من الذي سيجرؤ على قول الحقيقة؟ ليس فقط بالنظر إلى حجم الضرر الذي سببه هذا الهجوم بل بسبب قدرة المهاجمين على الوصول إلى ما يشاؤون، ما يعني أن إمكانيات كهذه قادرة على أن تشكل مستقبلاً خطراً مضاعفاً لا يحمد عقباه تحديداً فيما يتعلق بمسار العمليات العسكرية أو أمن المفاعلات النووية، لكن المشكلة الأهم في هذا الخيار تبدو بتحديد الجهة المسؤولة عن الهجوم، هل هم الروس؟ أم الكوريون الديمقراطيون الذين أثبتوا علو كعبهم بكل ما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات، أم هل هي جهات يسارية يلصقون بها عادة اتهامات كهذه؟ ربما، لكن ماذا لو كان هذا العطل مفتعلاً؟

هذا السؤال في الحقيقة سيبدو نقاشه مفتاحاً لما هو أهم بمعنى آخر: القدرة على اختلاق الأحداث التي تبرر فيما بعد سلوكيات ما، فكيف ذلك؟

منذ بداية معركة طوفان الأقصى ومع إعلان اليمن الدخول مباشرةً في المعركة انتصاراً للفلسطينيين بمطلب واحد يتمثل بوقف العدوان الإسرائيلي الذي لم يوفر البشر والحجر، كان للعمليات ضد السفن التجارية النصيب الأكبر من هذا التدخل، وما تبعه من ردّات فعل دولية عنيفة لإدانة هذا الفعل من دون المرور إلى أسباب حدوثه، نظراً لما سببته هذه العمليات من خطر على مسار أحد أهم الطرق التجارية في العالم، إن كان بالسيطرة على معابر أحد أغنى المناطق بالثروة النفطية أو قطع طريق العبور باتجاه قناة السويس، الشريان الحيوي للتجارة الدولية، وبداية الاستهدافات كانت تتركز فقط على السفن التي تحمل العلم الإسرائيلي لكن اليمنيين وسعوا الهجوم ليشمل السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني بمعزل عن العلم الذي ترفعه، وصولاً إلى شمولها سفن كل الدول المشاركة بالعدوان على اليمن وفلسطين.

حاولت الكثير من الدول الأوروبية فتح قنوات اتصال مع الجانب اليمني لشرح الأخطار الناتجة عن هذه الهجمات، بما فيها عزوف شركات التأمين عن قبول تأمين السفن التي تعبر تلك المنطقة باعتبارها مناطق نزاع من الدرجة الحمراء، لكن قنوات الاتصال تلك فشلت جميعها بإيجاد أرضيةٍ مشتركة، لأن اليمنيين ظلوا متمسكين بفكرة إزالة أسباب وجود الهجمات، ونظراً لانغماس الأوروبيين المباشر في الحرب الإسرائيلية على غزة وتحيزهم ضد منع إدانتها، على هذا الأساس رأت بعض الجهات الأمنية الأوروبية أنها المتضرر الأكبر من شبه تعطل حركة الملاحة تلك، بل إنها انتقدت ضمنياً الضربات الخجولة التي شنتها كل من الولايات المتحدة وبريطانية على مواقع خاصة بالحوثيين كما يسمونها واعتبروها مجرد ضرباتٍ خجولة غير رادعة.

وخلال الأسابيع الماضية ذهبت هذه الدول الأوروبية أبعد من ذلك عندما تحدثت عن أفكار قابلة للتطبيق تضمن أمن السفن في منطقة الخليج، حيث زار وفد أمني فرنسي خلال الأسبوع الماضي عاصمتين خليجيتين إحداهما تكتسب صفة العاصمة المهمة للتباحث بهذا الشأن، بما في ذلك جميع الخيارات المطروحة لإيجاد رادع للهجمات اليمنية على طرق السفن الرئيسة، لكن ردود العواصم الخليجية كانت واضحة: لن نقبل بأي تحرك خارج قرارات مجلس الأمن الدولي، بما في ذلك تشكيل تحالف عسكري بقطع بحرية قادرة على محاصرة الشواطئ التي تنطلق منها العمليات، لكن أين الولايات المتحدة من كل ذلك؟

لا يبدو أن الولايات المتحدة بعيدة عن هذه الأجواء، لكنها ببساطة كانت ترى بالهجمات اليمنية ربما شكلاً من أشكال التنفيس عن الشعوب العربية الغاضبة نتيجة صمت العالم عن المجزرة المفتوحة في غزة، وبالسياق ذاته حاولت بشتى الوسائل عدم إقحام نفسها مباشرة في الصراع لاعتبارات عدة أهمها الوضع الانتخابي في الولايات المتحدة والتفرغ لتغطية الجرائم الإسرائيلية، لكن هجوم المسيّرة اليمنية في الساعات القليلة الماضية كسر حاجز أشرعة السفن ليصل أسوار السفارة الأميركية في تل أبيب، هذه المسيّرة التي أدى انفجارها إلى مقتل إسرائيلي وجرح آخرين حسب الرواية الرسمية الصهيونية، ليبقى السؤال المطروح باتجاهين: هل استطاع حدث المسيّرة قلب الموازين أم إن المسيّرة أُريد لها أن تقلب كل الموازين؟

مبدئياً، تبدو حكاية هذه المسيّرة مثل حكاية العطل التقني الذي ضرب العالم الرقمي، نتلقاها كمستهلك لا كمشارك، حتى لو كان هناك تبنٍّ من الحوثيين للهجوم، فهل أدى الهجوم فعلياً إلى ما أدى إليه، ماذا لو كان هناك هامش خطأ بين ما تبناه الحوثي وما حدث فعلياً؟

من جهةٍ ثانية تبدو القدرات الخارقة لهذه المسيّرة تشبه إلى حد بعيد القدرات الخارقة لأصحاب الهجوم السيبراني، فهي وحسب ما أُشيع عبرت أكثر من ألفي كيلو متر ووصلت إلى الهدف الذي يقع على بعد عشرات الأمتار من السفارة الأميركية، هل كانت السفارة هي الهدف؟ أشك في ذلك وإلا فإنه بواقعية تامة هدف غبي للغاية، لأن العمق الإسرائيلي مملوء بالأهداف فلماذا اختيار هدف يدفع الأميركي ليدخل المعركة بشكلٍ أو آخر؟ من دون أن ننسى فكرة أن مسار المسيّرة جعلها تمر فوق دولٍ عربية كانت متهمة سابقاً بإيقاف المسيّرات الإيرانية التي عبرت باتجاه الكيان خلال الهجوم الذي تلا الهجوم على السفارة الإيرانية في دمشق، فلماذا لم تقم هذه المرة باعتراضها؟ إحدى الروايتين كاذبة حكماً تماماً، كما كذبة فكرة العطل الفني التي أشاعتها مايكروسوفت.

أخيراً، كما جرت العادة مع هجمات كهذه، فإن الروح المعنوية للشارع العربي ترتفع، لكن دعونا نعترف بأن العواطف شيء والوقائع شيء آخر تماماً، والمشكلة الأعقد أن أي تعاطٍ مع حدث المسيّرة خارج سياق التصفيق ولو كانت النظرة عقلانية إلى حد ما فهي سيقودك نحو اتهامات أقلها، الحرمان من نشوة الانتصار، هنا علينا أن نضع كل هذه النقاشات جانباً ونتكلم بموضوعية، ماذا لو كانت المسيّرة ذريعة؟

لنفكر ببعض العقلانية، لأن إخفاق مساعي الأوروبيين في الحصول على موافقة الدول الخليجية الأهم، بتدخل، كان لابد له من بدائل، هذه البدائل قد تبدو على شكل تدخل مباشر بقرار أممي، وقد يبدو عبر ردود إسرائيلية في الظاهر، وأميركية في الخفاء، بمسوغ واضح هو المسيّرة اليمنية، تحديداً أن الكيان اليوم لازال يعيش أوهام فائض القوة التي ستحوله إلى بندقية للإيجار لضرب ما يتحاشى الأوروبيون ضربه، أليست احتمالاً قابلاً للتحقق؟

ولكن في المقابل، وحتى لو تطورت القصة إلى توسيع ساحة الحرب وصولاً إلى اليمن، كما كان يتمناه رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو منذ الساعة الأولى لعدوانه على غزة، فهل سيستطيع هذا الأخير تسجيل انتصار على بعد ألفي كيلومتر، بعد أن أخفق حتى اليوم من تسجيل شبيه له في غزة، وهل تعرّض اليمنيين إلى مزيد من القصف يمكن أن يليّن مواقفهم الداعمة للمقاومة في فلسطين رغم أن حاملات الطائرات والبوارج الأميركية والبريطانية لم تستطع تحقيق مثل هذا المخطط؟

ربما لن يطول الزمن حتى تنكشف الحقائق، ويبدو أن الهجوم الإسرائيلي على اليمن لن يغير من المعادلات كثيراً، وستبقى القضية مفتوحة طالما أن قادة الكيان مازالوا يعيشون حالة فائض القوة.

كاتب سوري مقيم في فرنسا

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن