القارة العجوز بين الخوف وأمل النعامة الحذر
| د. قحطان السيوفي
مستقبل أوروبا «القارة العجوز» يلقي بظلاله على شعور المواطن الأوروبي ويتراوح بين الخوف وأمل النعامة الحذر، لكنه يعتمد أيضاً على كيفية استجابة الأوروبيين للتحديات التي سنشير إليها لاحقاً.
يرى المحللون السياسيون أن نتائج الانتخابات الأوروبية التي جرت مؤخراً، أثارت نمطين من ردود الأفعال بالقارة العجوز.
الأول يمكن وصفه بخيار «أمل النعامة»، حيث يدفن المرء رأسه في الرمال، ويتضرع إلى السماء كي تمر العاصفة بسلام، أما الخيار الثاني فيمكن وصفه بـ»الخائف».
يشير أعضاء فريق النعامة إلى أنه رغم النجاحات التي أحرزتها أحزاب اليمين المتطرف، فإن برلمان الاتحاد الأوروبي سيظل تحت سيطرة يمين الوسط، والجماعات الديمقراطية الاجتماعية المتمسكة بالماضي، ويهمها الحفاظ على الوضع الراهن، بالمقابل أنصار الرأي الثاني، الخائف، يعتقدون أن «الخوف يلوح في الأفق»، حتى إن بعضهم يقول إن شبح الفاشية يعود إلى أوروبا.
إن الانتخابات الأخيرة كشفت النقاب عن بعض المشكلات البنيوية التي يعانيها الاتحاد الأوروبي، أولى هذه المشكلات يكمن في ميل الاتحاد الأوروبي المتنامي نحو الفيدرالية.
في الواقع، أوروبا، الغربية والشمالية من القارة، استفادت من التنوع في الهياكل السياسية والثقافية، عبر ترحيبها بأنماط مختلفة من التفكير والاعتقاد.
بالمقابل الكثير من منتقدي الاتحاد الأوروبي من دعاة السيادة، يعارضون فكرة الدولة الأوروبية العظمى، ويتجاهلون السمة الأساسية للدولة الأوروبية ذات السيادة الكلاسيكية، كما يرفض أنصار السيادة في العصر الحديث فكرة الإمبراطورية المغلقة، وأسسوا خطابهم القائم على الخوف من «الاستبدال العظيم»، على الادعاء بأن الهجرة الجماعية تعمل بشكل أساسي على تغيير التركيبة العرقية الجينية للسكان الأوروبيين، كما نشهد كذلك ظهور ما يمكن أن نطلق عليه «الإسلاموفيليا» داخل أوساط جماعات متطرفة.
مشهد مراكز الاقتراع بباريس أشار لوجود مجموعات من المتشددين اليساريين المتطرفين يرفعون الأعلام الفلسطينية، ويرتدون الكوفيات، ويطالبون بدعم مرشحي «فرنسا الأبية» الموالين لبوتين، والذين تدعو ملصقات حملتهم الانتخابية إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، بالمقابل كشفت الانتخابات الأخيرة للاتحاد الأوروبي أمراً مهماً، وهو أن الاتحاد أصبح يفتقر إلى الشعبية على نحو متزايد، وتحت ضغط متزايد من الأطراف الهامشية من اليمين واليسار، استمر الاتحاد في بعض السياسات التي تسببت في فقدانه شعبيته من الأساس.
وجراء الحرب التي تبدو من دون نهاية في أوكرانيا، ولهيب التضخم، والفشل في إعادة تعريف العولمة، وإغراءات القومية الاقتصادية، والشكوك التي تخيم على التحالف مع الولايات المتحدة، والعجز عن تحديد ما إذا كانت الصين شريكاً واعداً أم مصدر تهديد، ناهيك عن سلسلة من فضائح الفساد، دفعت جميعها الاتحاد الأوروبي باتجاه وضع صعب.
من مظاهر الخوف بل الذعر الآن، استقالة رئيس وزراء بلجيكا، ودعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لانتخابات مبكرة، وهي الخطوة التي اعتبرها أصدقاء ماكرون قبل خصومه مغامرة غير مأمونة العواقب.
إنّ قوى اليمين الراديكالي المتحالفة الآن التي فازت بـ30 في المئة من أصوات المشاركين بالانتخابات، هي عدو الديمقراطية والانتخابات والاتحاد الأوروبي، وأقوى أحزابها في فرنسا، حزب «التجمع الوطني» اليميني المتشدّد بزعامة مارين لوبان، وفي ألمانيا «حزب البديل من أجل ألمانيا»، والبلدان هما قطبا الاتحاد الأوروبي، ولكن ماذا عن احتمالات المستقبل القريب؟
إن أحزاب اليمين الأوروبي هي جماعاتٌ حديثة النشأة وليس عندها تقاليد حقيقية، ولا هي ذات أهداف بعيدة! وقد فازت وشكّلت حكوماتٍ في البلدان الإسكندنافية وفي هنغاريا والنمسا وإيطاليا، ولم تجرِ أي تغييرات راديكالية حتى الآن لا في السياسات تجاه الاتحاد الأوروبي ولا في السياسات الخارجية للاتحاد! وهم لا يأبهون لحلف الـ»ناتو» لكنهم لا يعادونه.
ثمة أسباب كثيرة وراء بروز اليمين الأوروبي؛ الشخصية القيادية، والمسار الاقتصادي، والهوية الثقافية.
أولاً: قيادات أوروبا تفتقد الشخصية القيادية، باستطلاعات الرأي؛ هذا السلوك حولهم إلى إداريين، وليسوا قادة.
ثانياً: المسار الاقتصادي الليبرالي يبدو معتلّاً في أوروبا، على حين القادة يصرون بعَمَى على اعتماده كَحَلِّ أوحد، فصناعة القرار السياسي انتقلت تدريجياً من السلطة السياسية، أي الحكومة والبرلمان، إلى المؤسسات والشركات الاقتصادية، وصناديق المال، وعليه، لا يجد الناخب سوى الانصياع؛ فالاقتصاد الليبرالي «المتغول» قزَّم الدولة، وحول أصحاب المال ومالكي الشركات الكبرى إلى ناخب قوي جداً، والنتيجة، كراهية شديدة للسياسيين، وضياع الثقة بهم.
ثالثاً، الهوية الثقافية هي أساس مهم في تركيبة اليمين المتشدد؛ هذا أيقظ في الوعي الأوروبي المخاطر على الهوية واحتمال فقدانها.
إن هذه العناصر الثلاثة لها دور بارز في صعود اليمين المتشدد، وليس مستغرباً أن يتوسع نفوذه أكثر فأكثر، ولوقف زحفه تحتاج القارة العجوز لكسر العلاقة السامة بين السوق والسياسيين، وتحويل الاقتصاد لخدمة الكثرة وليس القلة؛ واقتناع الأقليات بأن الديمقراطية «العملية» لا تسمح لها بأن تعيش بجسد في مكان وقلب في مكان آخر.
بالمقابل يواجه مستقبل أوروبا العديد من التحديات، ومن التحديات الرئيسية:
أولاً: صعود القومية الشعبوية في السنوات الأخيرة بجميع أنحاء أوروبا، ما أدى إلى سياسات حمائية.
ثانياً: تواجه أوروبا توترات جيوسياسية متزايدة، مع الحرب في أوكرانيا والتهديد المتزايد من الصين وروسيا، وتتطلب هذه التحديات من القارة العجوز أن تعزز قدراتها الدفاعية.
ثالثاً: تحديات اقتصادية مثل ارتفاع التضخم وازدياد عدم المساواة.
رابعاً: لا تزال الهجرة قضية رئيسة تواجه أوروبا.
خامساً: تغير المناخ الذي يعد تهديداً خطيراً لأوروبا.
رغم هذه التحديات، يرى البعض أن ثمة أسباباً للتفاؤل في شأن مستقبل أوروبا ومنها: ما يسمى القيم المشتركة، ومن هذه القيم، ما يسمى الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون.
الحرب الأوكرانية أعادت الجغرافيا السياسية الأوروبية لتكون مسرح الصراع الدولي الساخن الأول في العالم، ومن المفارقات أن السويد، الدولة المحايدة منذ قرنين من الزمن، انضمت إلى منظمة حلف شمال الأطلسي في نظام دولي يتشكل ويتحكم بمسار يبلوره حالياً صراع غربي- روسي نشأ حول أوكرانيا وصار يوصف بـ«نظام ما بعد الحرب الباردة».
السؤال اليوم يتعلق متى يبدأ البحث عن الحل السياسي الواقعي والشامل؟ ويزيد من قوة السؤال احتمال عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة والخوف من السياسات الأحادية الحادة التي اتبعها في الماضي، بعيداً عن منطق التعاون والتنسيق الغربي الأطلسي والتداعيات المحتملة على أوروبا.
من هذه التحديات ازدياد حجم الهجرة غير القانونية وخاصة عبر بوابة البحر الأبيض المتوسط.
إن أوروبا اليوم محاطة بحزام من التوترات والصراعات، من حدودها الروسية إلى حدودها المتوسطية، تحديات تؤثر كلها بشكل أو بآخر على الأمن والاستقرار في «القارة العجوز»، وبالتالي على مسار البناء الأوروبي كقطب دولي فاعل في نظام عالمي جديد في طور التشكل، ويبقى الغموض والتداخل الذي يميّز جغرافية القارة العجوز ينعكس على سياستها وعلى حضارتها وقيّمها، بعد أن بدأ الحلم في إقامة مجتمع أوروبي مزدهر ومتماسك، في التراجع، تاركاً مكانه لمشاعر الإحباط والخيبة، وثمة الكثير من القلق لدى المواطنين الأوروبيين، ويتراوح شعورهم بين الخوف وأمل النعامة الحذر.
وزير وسفير سوري سابق