ثقافة وفن

أما يزال يهوى الشعر؟

| إسماعيل مروة

أما يزال يهوى الشعر؟

أول سؤال أطلقته المفاجأة عندما كان صامتاً، فدهمه الرجل السبعيني الطيب بسؤاله: ألست أنت فلاناً؟ نعم أنا، ولم تسعفه ذاكرته بالعودة إلى الوراء ليعرف الرجل، وكيف عرفه، وهو العجوز البسيط.. أعاد هذا الرجل الذاكرة إليه حين قال له: أنا فلان، والد فلان..

كان ذلك كما تذكر حين عادت الذاكرة قبل أربعة عشر عاماً، حين حضر هذا الرجل مع كوكبة من الأصدقاء، ومعهم شاب يحمل أوراقه التي كتبها، وشكا يومها من أن واحداً لم يُشجعه على طباعة مجموعته هذه، وكثيرون نفوا عنه صفة الشعرية!!

بقيت الأوراق بين يديه أسبوعاً، يقلبها، يصوبها، يبحث فيها عن النقاط المضيئة، والأنفاس الأدبية الشعرية، وفي كل نص، مهما كان ذلك النفس الشعري الذي قد يلمع وقد يخبو، وبعد هذا الأسبوع رأى أن يكتب رأيه للشاعر الشاب، فكما كان يجب أن يشجعه السابقون، رأى أن يكون دافعاً لا محبطاً، وكان الود يملأ المكان من جوانبه في اللقاء الثاني، والذي كان قبل الأخير.. سعد كثيراً لأنه أسعد شاباً، ولم يشهد شهادة زور في أدبه، وضاعت الشخصيات في الزحام.. وأخذت دوامة العنف والحرب على سورية تتسع، وانقطعت السبل كافة بينه وبين هذا الشاعر، كما انقطعت مع كثيرين تاهوا في الزحام كما تاه..

بقيت في الذاكرة أشياء، وضاعت أشياء كثيرة، لكنها كلها كانت في مستقر الحب.

ألست أنت فلاناً؟ قال له..

أجابه: نعم..

وحين تيقن منه سأله على استحياء وتوجس مخافة أن تكون الحرب قد فعلت فعلها:

وأين شاعرنا؟

اعتدل الوالد في جلسته، وبدأ الحديث عن الشاعر وعمله ومكانته، فهو يتجول في أرجاء الأرض معززاً مكرماً، وفي أول الدرجات، وفي أرقى الفنادق، ومع أكبر الشخصيات، ولو كان قادراً لاستلم قضايا عديدة، وفي بلدان متعددة، فالجميع يطلبه، ويرجو ودّه وعلمه وخبرته..!

وماذا عن الشعر؟ أما يزال يهوى الشعر؟

أوه.. أوه.. قال الوالد، لقد أصدر مجموعتين شعريتين فخمتين، وحاز أكبر جائزة شعرية على مستوى الوطن العربي، وله أمسيات شعرية يحضرها كبار القوم في كل مكان يحلّ فيه، طبعاً لم يذكر أي أديب، وإنما اكتفى بالسادة والمسؤولين وصناع القرار..!

وألمح بطريقة ما بأنه مرتاح ومريّش ويعيش من الأدب والشعر والفكر والإبداع.

تذكرت ما قاله الكبير سعيد عقل: أقول لمن يريد أن يحصل على جائزتي خذ النقود، خذ الكثير، لكن كن أنت لتقدم جديداً.. سألت نفسي بهدوء: هل يفعل هؤلاء الذين يحصلون على الجوائز من المحيط إلى الخليج، من سورية إلى مصر إلى المغرب فدول الخليج ما أراده سعيد عقل من الكينونة؟

من جوائز دولة إلى جوائز مؤسسات خاصة، إلى جوائز فردية تحمل أسماء متمولين أو مبدعين، كلها جوائز تمنح للمبدعين الحقيقيين الذين ملؤوا الساحة فكراً وثقافة، بل تغييراً جوهرياً كما يقول سعيد عقل، الذي عبر عن هذه الفكرة بالثورة!

كيف تتم صناعة النجوم في الإبداع والثقافة والأدب؟

كيف يتم تفصيل الجوائز على مقاسات أشخاص ومذاهب ومناطق وآراء؟

عاد إلى مجموعة هذا الشاعر الأولى التي قرأها قبل خمسة عشر عاماً، قرأها ملياً، وسأل عن حاله مع الشعر وتذوقه ونظمه، هل تطورت عملية صناعة الصورة لديه كما يجب ليكون بمقياس ما شاعر العرب الأول في فئة ما، ليعتلي المنابر؟ حدثني صديق متخم بالمال والمعرفة عن عدد كبير من الأدباء الذين تتم استضافتهم، وتفتح لهم المنابر، وتحجز لهم القاعات، وأكثرهم لم نسمع باسمه، وصنع مسوغات كثيرة وأسباب كثيرة لما يحدث، لكنني يومها رفضت كل هذه التسويغات، وأراها من باب النصيب والرضا والقناعة، وربما عن خيارات سياسية وفكرية وإيديولوجية ومناطقية، وهي في كل حال فسحة لهذا الشاعر أو الشاعرة أو تلك ليحيا وفق قناعاته، ويحقق ما يشاء، وإن بقي على حدود حكاية الجدات أو الشعر الشعبي الذي يملأ الذاكرة.

قبل أن يغادر المكان قال له: لم أقرأ شعره الجديد، لابد أنه صار شاعراً فحلاً ما دام قد وصل إلى ما وصل إليه بشهادة الخبراء، ولكن أخبره أنني بشوق لقراءة جديده لمعرفة المزايا التي جعلته… وربما أقتنع بأنه لا يزال يهوى الشعر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن