قضايا وآراء

80 عاماً بتوقيت دمشق وموسكو

| عبد المؤمن الحسن

تحتفل سورية وروسيا بمرور ثمانين عاماً على بدء العلاقاتِ السياسية والدبلوماسية بين البلدين، والتي انطلقت رسمياً في 21 يوليو 1944 عندما كانت سورية تحت الاحتلال الفرنسي.

وقد مرت العلاقة منذ نشأتِها بالعديد من المحطات التي لم تكن يوماً من الأيام محطاتِ خذلان أو تخلٍّ، فكان لا بد في ذكراها الثمانين من تذكر أهمِّ مفاصلها ومحطاتها.

فبعد بدء العلاقة الرسمية ساهمت سورية وهي تحت الانتداب الفرنسي بالمؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة في سان فرانسيسكو عام 1945، وعندما طالبت بحقها في التحرر من الاحتلال الفرنسي عام 1946 وضع الفرنسيون مشروعَ قرار يحفظ لهم الوصاية على سورية، وفي هذه المعركة الدبلوماسية ظهرت أولى بوادر التقارب بين البلدين حين استخدم الاتحادُ السوفييتي للمرة الأولى حقَّ النقض الفيتو ضد القرار الفرنسي، ليسهم في حصول سورية على استقلال ناجز ونظيف.

في خمسينيات القرن الماضي وبعد سنوات من الاستقلال وحينما بدأت الدولة السورية ببناء قدراتِها المختلفة، ومع استخدام الغرب سياسة الابتزاز لجأت سورية إلى الاتحاد السوفييتي ليمدها بالسلاح الذي شكل عِمادَ ترسانة جيشها الوطني.

في الجانب الاقتصادي الذي لا يقلُّ أهمية عن الجانب العسكري نشطت العلاقاتُ بين البلدين حين وقعا أول اتفاقية للتعاون الاقتصادي عام 1957 نتج عنها أن تشترك السواعدُ والعقول السورية والسوفييتية بتشييد 63 مشروعاً، من أهمها سد الفرات، ومد 1500 كم من السكك الحديدية وأكثرِ من 3000 كم من خطوط الكهرباء.

كما اكتشف السوفييت حقولَ النفط شمال شرقي سورية وأنشؤوا خط أنابيب لنقل المشتقاتِ النفطية بطول 180 كم، وأقاموا معملا للأسمدةِ الكيميائية، وإذا أضفنا المصانع المختلفة لإنتاج الحديد والصلب وصفائحِ الألمنيوم، والنسيج، والسكر، فإننا سنعلم السببَ الحقيقي وراء جعل سورية دولة رائدة في النهضةِ الاقتصادية والصناعية بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ومع انفراط عقد الجمهوريات السوفييتية وبروز روسيا الاتحاديةِ كوريثٍ شرعي لتركة الاتحاد السوفييتي السياسيةِ والعسكرية والاقتصادية، سكنت العلاقة ومرت بفترة من الهدوءِ، رغم تراجعِ الدور الروسي العالمي وسيطرةِ الولايات المتحدة على العالم كقطبٍ متحكم بكل تفاصيله وقضاياه، لكنَّ تسلُّمَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقاليدَ الحكم في روسيا بين عامي 2000 و2008، ومنذ 2012 وحتى الآن، ورغبتَه الطموحة لإعادة روسيا لدورها المحوري في العالم، استدعى من الزعيم الروسي أن يعيد جميع التحالفات التي سمحت للسوفييت أن يكونوا قطباً مهماً في تحديدِ شكل العالم الحالي.

لم تكن سورية بعيدة عن هذا الطموح، فقد مرت كجزءٍ من المحور المُناهضِ للغرب بواحد من أعتى التحدياتِ المصيريةِ بتاريخها، مع أحداث ما سمي بالربيع العربي، التي مولها الغرب للتخلص من كل الحكومات التي تقفُ عقبةً في طريق تفرده، وواجهت الفوضى والإرهاب، ليكون تاريخُ 30 أيلول من عام 2015 مفصلاً جديداً وكبيراً للطبيعة الأصيلة للعلاقةِ السورية الروسية، حين قررت القيادة الروسية استجابة لطلبِ الرئيس بشار الأسد أن تساند سورية بحربها ضد الإرهاب ورعاتِه، ونجح البلدان والجيشان العسكريان والدبلوماسيان بفضل التنسيقِ المحكم والتضحياتِ الجسام في هزيمة هذا الشر، وكسر شوكة الإرهاب ورعاته والحفاظِ على الدولة السورية واستعادة جزء كبير من أراضيها التي سُلبت منها.

لم تقتصر المساعدةُ الروسية على الدعم العسكري خلال فترة الحرب على سورية، فالعلاقاتُ التجارية والاقتصادية لم تتوقف أيضاً خلال الأزمة، وتم في 2023 توقيع اتفاق لتوسيع التعاون التجاري والاقتصادي، يمنح هذا الاتفاق الكيانات الاقتصادية الروسية حق تنفيذ المشاريع على الأراضي السورية بالتعاون مع الشركاء السوريين.

ولأن روسيا الاتحادية كسورية دولة حضارية غير طارئة، وعت أن الحرب على سورية تهدف لمحو القيم الإنسانية السورية التي تتطابق إلى حد بعيد مع القيم الإنسانية الروسية، فقدمت وبمساعدة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، كل المساعدة اللازمة لدراسة وحفظ وإعادة ترميم التراث الثقافي والتاريخي السوري، بما في ذلك المعالم التاريخية المتضررة من الأعمال القتالية، وأبرزها مشروع ترميم قوس النصر في تدمر، وترميم مسجد الأمويين في حلب ومسجد خالد بن الوليد في حمص، إضافة لترميم كنيسة القديس جاورجيوس في عربين وكنيسة رقاد السيدة العذراء في الزبداني.

أيضاً، لم تستطع روسيا الاتحادية البقاء مكتوفة الأيدي عندما ضرب الزلزال المدمر سورية في 6 شباط 2023، وأودى بحياة الآلاف، ومنذ الأيام الأولى، عمل موظفو وزارتي الدفاع والطوارئ الروسية مع الكوادر السورية في منطقة الكارثة، ببناء المستشفيات الميدانية وتوزيع المساعدات الإنسانية الأساسية.

ولأن العلاقات الصادقة والحقيقية تتطلب تنسيقاً وثيقاً وحواراً على أعلى المستويات السياسية، لم تتوقف قيادات البلدين عن التواصل المستمر، ففي عام 2017 كسر الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين حصارَ سورية بزيارته قاعدةَ حميميم، والتقى الرئيس الأسد، كما تجول بوتين عام 2020 في أحياء دمشق شاهدا على هزيمة الإرهاب أمام التحالف المقدس بين سورية وروسيا، قطع خطوات قليلة من الجامعِ الأموي إلى الكنيسةِ المريميةِ، مثلت طريقاً يختصرُ علاقاتٍ تاريخيةً روحية ثابتةً بين كنيستي البلدين، ومسلمي البلدين.

بدوره قام الرئيس بشار الأسد بزيارتين رسميتين لروسيا في عامي2015 و2023، أجرى خلالهما مباحثات تفصيلية مع الرئيس الروسي.

من جانبها سورية التي عانت الإرهاب وقاومته، وكابدت ما كابدته من ظلم الغرب وحصاره واعتداءاته، وقفت أيضاً مع روسيا عندما أعلنت أنها ستطلق عمليتها العسكرية الخاصة لإنقاذ المواطنين الروس المقيمين في الدونباس من ظلم وتعديات وجرائم النازيين الجدد الذين سيطروا بالقوة على نظام الحكم في كييف، وكانت واحدة من الدول التي تضامنت مع حق الشعب الروسي في الخلاص من هذه التعديات والجرائم، عبر الحرب التي يخوضها الجيش الروسي ضد كل منظومات الاحتلال والإمبريالية في العالم.

وفي البعد الاجتماعي الغائب عن الكثيرين، تضفي الصلات الأسرية بين الشعبين السوري والروسي بعداً إنسانياً على العلاقات بين البلدين، فهناك أكثر من 20 ألف عائلة مختلطة شكلت أساساً في بناء الحلف الإستراتيجي المتطور بين الاتحاد الروسي وسورية، وهي تنتشر في كل المحافظات السورية، يتشارك الأولاد والأحفاد فيها أصالة الآباء ومحبة الأمهات وتقديس الأوطان، وفي البيوت الصغيرة الجامعة، تختلط الاحتفالات الروسية وأعيادها الوطنية بنظيرتها السورية، لتنضج القيم وتكبر الأجيال في أجواء تتقبل الآخر وتحترمه مهما كان، وأينما كان.

أما في الجانب الثقافي، فيُعد بيت الثقافة الروسية في دمشق وجهة جاذبة ليس فقط للمغتربين الروس بل أيضاً للسوريين المهتمين بالثقافة الروسية، وفي أيار 2023، استأنف المركز عمله بعد إجراء تجديدات على المبنى الذي افتتح لأول مرة عام 1957.

وعلى صعيد الدراسة والتحصيل العلمي هناك أكثر من 1000 منحة دراسية تقدمها الجامعات والمعاهد الروسية سنوياً، تجذب الطلبة السوريين، وهي واحدة من أكبر الحصص المخصصة من روسيا الاتحادية للتعليم المجاني في جامعاتها.

كما تزايد اهتمام السوريين باللغة الروسية، حيث تم إدراجها عام 2014 ضمن البرنامج التعليمي العام لسورية كلغة أجنبية ثانية، وفي العام نفسه، بدأ قسم اللغة الروسية عمله بكلية الآداب بجامعة دمشق. وفي عام 2019، وبجهود وزارتي التربية في روسيا وسورية، افتتح في دمشق مركز للتعليم المفتوح باللغة الروسية، تعقد فيه دورات تدريبية وندوات لمعلمي المدارس، كما يبلغ عدد الطلاب السوريين الذين يدرسون اللغة الروسية في المرحلتين الابتدائية والإعدادية نحو 40 ألف طالب، وفق إحصاءات وزارة التربية السورية.

وفي حصيلة تقريبية للمستويات الدراسية الأعلى، يبلغ عدد السوريين من خريجي الجامعات السوفييتية والروسية نحو 40 ألف خريج من مختلف الاختصاصات أغلبهم شاركوا بشكل أو بآخر ببناء سورية وتدعيم دورها وقيمتها وقيمها، فيما يدرس الآن في روسيا نحو 5 آلاف طالب سوري سينضمون إليهم ليعززوا العلاقة بين الدولتين والشعبين.

لن تكفي عشرات الصفحات للحديث عن 80 عاماً من العلاقات الوطيدة بين دولتين مهمتين في العالم كروسيا وسورية، وهما الآن تساهمان مع فارق القوة والتأثير برسم تاريخ جديد وبناء عالم عادل، بعيد عن الأحادية القطبية، يُعلي قيمة القانون الدولي والمؤسسات الدولية، وخاصة أن البلدين اكتشفا أن ما تمر به روسيا اليوم يشبه إلى حد بعيد ما مرت به سورية البارحة، وأن العدو الذي قاتل سورية وحاصرها لمدة 13 عاماً وما يزال، هو ذاته العدو الذي يقاتل روسيا منذ سنتين في أوكرانيا ويحاربها ويحاصرها بالطرق ذاتها والأدوات الشريرة.

هكذا يبدأ البلدان عاماً جديداً في علاقتهما الراسخة كالطود، منذ 80 عاماً، يراكمان الخبرات الغنية ويمشيان الدرب ذاته، يسافران معاً عبر الزمان والمكان، والأدب والفنون، وبلغة الوطن والحب والجمال، مستندين إلى قاعدة ثابتة من القيم والمبادئ، وهما يكتبان معاً التاريخ ويغيران العالم، ليصبح عالماً بتوقيت دمشق وموسكو.

صحفي سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن