قضايا وآراء

إسرائيل ما بين خريفين أي حذر وأي غفلة؟

| عبد المنعم علي عيسى

حكمة الحذر هي حكمة الأمة الروسية أكثر من أي أمة في القارة القديمة الحافلة بالأمم والحكم، ولعل الأمر لا يخرج عن الطبيعي، إذ لطالما كانت الأرض التي قطنتها تلك الأمة من أقسى الأراضي التي قطنها الإنسان، وبقدر ما تزداد علاقة الإنسان بالطبيعة قساوة بقدر ما يرتفع الحذر في الذات الجماعية للأمة، فكيف الأمر إذا ما أضاف التاريخ عليها كل مآسيه وحروبه، لكن ذلك كله لم يعفِ، الرئيس السوفييتي الأسبق، جوزيف ستالين، الذي لم يأمن جانب أحد في صعوده الصاروخي نحو السلطة، من أن يكون في وضعية «الغفلة» صيف العام 1941، هو المتكئ على اتفاقيته التي وقعها مع الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر قبل نحو عامين من هذا التاريخ الأخير.

يقول المثل الفرنسي «ما من مغالاة في الحذر»، ومهما زاد حذرك فإنك بحاجة للمزيد منه، يضيف المثل عينه، لكن ما لم يضفه هذا الأخير أن الحذر والغفلة وجهان لعملة واحدة؟ ألم تؤكد اتكاءة فرنسا على خط «ماجينو» عام 1939 تلك الحقيقة؟ ثم ألم تكن الولايات المتحدة، المتربعة على عرش العالم، خريف العام 2001 في وضعية أقرب للوضعية الفرنسية آنفة الذكر، وقبلها فعلت عندما لم تستطع أجهزة الاستخبارات العملاقة التنبؤ بما فعله «الكاميكاز» اليابانيون بالأسطول البحري الأميركي الرابض في خليج بيرل هاربور شهر كانون الأول من العام 1941.

استندت إسرائيل منذ قيامها على كم من الدعم الغربي غير المسبوق لأي كيان، الأمر الذي رمز لرؤيا غربية كانت تبدو مدركة لصعوبة زرع كيان وسط منطقة تحمل بين ثناياها كماً وافراً من القلق، بدءاً من قلق التكوين ومروراً بالقلق الجيوسياسي ثم وصولاً إلى قلق النسيج المجتمعي الناجم بالدرجة الأولى عن ذات جماعية يوقظ فيها موروثها الحضاري إحساساً دائماً بمشروعية النهوض لكن أنظمتها كانت تقف على الدوام على ضفاف إعاقة المشروع، من دون أن يعني ذلك أن ذلك الفعل هو الوحيد في هذا السياق.

كانت لحظة الـ14 من أيار 1948 محاولة لشطب خريطة وطن من الجغرافيا السياسية، وفيها أضحت فلسطين هي إسرائيل، باتت الضفة الغربية تحت حكم شرق الأردن، وبات قطاع غزة تحت إدارة مصرية، كانت الخلفية هنا هي تشتيت الهوية الفلسطينية وتمزيقها كسبيل لا غنى عنه لرسوخ المحاولة، لكن ما جرى هو أن تلك الهوية مضت في تبلورها بدرجة أغنى من شقيقاتها العربيات، ولعل ذاك كان ناجماً، بالدرجة الأولى، كرد فعل على نهج «الاقتلاع» الذي مورس بحق الفلسطينيين، الأمر الذي دفع بهم لإنتاج علاقة مع وطنهم السليب تكاد تكون أنموذجاً فريداً في المنطقة إن لم يكن كذلك على مستوى العالم، وفي السياق تحولت المخيمات من أماكن نزوح بنيت خصيصاً لأجل تحطيم «هيولى» الهوية، إلى نواة وطن عصية على التحطيم، وبات «المخيم» ركيزة العودة إلى الوطن التاريخي، والشاهد هو أن حراك غزة الأخير، بالمعنيين العسكري والفكري، كان قد وضع فلسطين «الوطن التاريخي» في صورة هي الأعرق والأكثر تجذراً قياساً بنظيراتها في المحيطين الأقرب فالأبعد.

قرأت إسرائيل المسار الذي سار عليه كيانها طوال ما يقرب من العقدين على أن المنطقة «فاقدة لمناعتها» بفعل الفصل الحاصل ما بين شارعها وأنظمتها، جنباً إلى جنب رزمة من العوامل الأخرى، حتى إذا كانت محطة الـ5 من حزيران 1967 عرضت «وسادة» الاتكاء لكي تلائم «سريراً مزدوجاً» بدا أنه نتاج طبيعي لهذي المحطة الأخيرة، والشاهد هو أن تلك الاتكاءة كانت من الدرجة التي جعلت رئيسة وزراء إسرائيل العام 1937 غولدا مائير، لا تعير كثير اهتمام لتقرير صادر عن عميل مصري يحظى بموقع القريب جداً من دائرة القرار، والتقرير إياه كان قد حدد باليوم والساعة وقت الهجوم المتزامن الذي ستشنه كل من مصر وسورية على إسرائيل، وإن كان ثمة خطأ ارتكبه ذاك العميل في تحديد ساعة الهجوم التي قال إنها ستكون في الساعة السادسة من صباح الـ6 من تشرين أول، والأمر برمته قد يكون ناجماً عن عدم «تحديث المعلومات» لدى هذا الأخير فحسب، آنذاك ردت غولدا مائير، عندما قرأت تقرير العميل: إن «صديقنا يتمتع بخيال خصب أكثر مما عهدناه عند أي صديق آخر».

ظهر عرض «الوسادة» أيضاً في أول ردة فعل عسكري على إعلان دمشق والقاهرة الحرب على تل أبيب، يروي وزير الخارجية الأميركي آنذاك، هنري كيسنجر، في مذكراته أنه تحادث مع وزير حرب العدو آنذاك، موشي دايان، بعد ساعتين ونصف من هذا الفعل الأخير، ويضيف: إن دايان قال له بالحرف: إن «الجيش المصري سيباد عن بكرة أبيه».

كانت إسرائيل فجر الـ7 من تشرين أول 2023 في وضع شبيه بذاك الذي كانت عليه ظهيرة الـ6 من تشرين أول 1973، بل لربما كانت «الوسادة» هنا أكثر اتساعاً، من حيث إن الأخيرة كانت تتميز بعوامل جودة لم تكن متوافرة في تلك الحاصلة في الأولى، قياساً لمعطيات عدة أبرزها الوضعية التي كانت عليها «سلطة أوسلو»، ثم الانهيارات الحاصلة في صفوف الجبهات الممتدة من أقصى الخليج إلى أقصى المحيط مع وجود استثناءات قليلة، والشاهد هو أن تل أبيب لم تعر كثير اهتمام للتقارير الصادرة عن بعض الأجهزة الأمنية والتي كانت تجمع على أن ثمة مؤشرات توحي بـ«طوفان» قادم لا محالة.

تكاملت شروط عدة لدى إسرائيل، كما لم تتكامل عند أي كيان آخر، لتجعل منها الكيان الأكثر حذراً في العالم، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، ففعل اغتصاب الأرض والتاريخ والإرث كفيل بأن يجعل من القائم بالفعل «خلية قلق»، ثم إن شأن الظالمين هو الخشية دائماً، وخشيتهم تظل على الدوام من الذاكرة التي تلعب دور الخزان، أو دور «داتا» الأوطان، الأمر الذي يفسر التركيز على تحطيم هذه الأخيرة بسبل وطرائق كانت الأعتى مما تعرضت له ذاكرة شعب، وبهذا المعنى فإن «طوفان الأقصى» كان إيقاظاً للذاكرة ليس في الذهنية الفلسطينية فحسب، بل في ذهنية العالم برمته، الأمر الذي تردد صداه في ساحات وشوارع رفعت فيها أعلام فلسطين التي باتت الأكثر انتشاراً في العالم، وفي مقلب آخر أثبت «الطوفان» من جديد أن الحذر والغفلة هما وجهان لعملة واحدة، وأحدهما صنو للآخر في ذهنية الغاصبين فحسب.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن