قضايا وآراء

الثقافة والإعداد والإعلام.. وتطوير أداء البعث استجابة لمتطلبات المرحلة

| د. مازن جبور

حزب البعث العربي الاشتراكي وبعد تجربة 60 عاماً في السلطة، يطرح السؤال عن التحديث والتطوير، نفسه بقوة على البعثيين عموماً، وعلى قيادات البعث المتعاقبة خصوصاً، كيف كانت البنى والأدوات والآليات قادرة على خلق التواصل مع الجماهير، وتفعيل دور الحزب ومكانته في قضاياها، والسؤال المطروح اليوم بقوة: هل تلك البنى والأدوات لا تزال فاعلة؟ ما هي التحولات التي طرأت عليها؟ وغيرها أسئلة كثيرة تتطلب إجابات عاجلة لتدبير ما يمكن تدبيره.

وضع حزب البعث العربي الاشتراكي وكوادره على المحك مع اندلاع الحرب على سورية في العام 2011، بعد ما يقرب من خمسين عاماً كان فيها البعث قائداً للدولة والمجتمع في البلاد، مع تعداد تجاوز الثلاثة ملايين عضو، سرعان من انفض جزء كبير منهم -تجاوز النصف- من حوله مع اندلاع الأزمة السورية، وسلك العديد منهم أقصى درجات التطرف يميناً ويساراً.

تطرح الحالة السابقة مشكلة جوهرية في عمل البعث، على صعيد شقه المتعلق بالإعداد والثقافة والإعلام، إذ إن من المهام الأساسية لأي حزب إعداد كوادره وتثقيفهم بما يقوي رابطة الانتماء لديهم بالحزب والوطن والقضية، هذا على مستوى الحزب، فكيف الأمر إذا كان هذا الحزب قائداً للدولة والمجتمع.

ومن الجدير ذكره هنا، أنه بقيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، حل الحزب نفسه تنظيمياً في سورية، إلا أن البعث في هذه المرحلة كثف عمله على الصعيد الإعلامي والثقافي، وهو ما مكنه من كسب الجماهير، وتحقيق التفافها حول قضاياها التي رفع من وعيها بها، وتوجيه طاقاتها نحو تحقيق أهدافها، الأمر الذي مكن البعث من الحفاظ على دوره ومكانته في الحياة السياسية السورية بعد الانفصال، وهو ما يؤكد الدور المركزي للإعداد والثقافة والإعلام في حياة الأحزاب.

ويمكن وصف الحزب السياسي استناداً إلى «جورج بوردو»، بأنه تجمع أفراد يؤمنون بأفكار محددة، ويعملون على نصرتها وتحقيقها، ويقدم «سيجموند نيومان» مهام رئيسية للأحزاب السياسية على مختلف أنواعها وتقسيماتها، منها:

• إدماج المواطن في الحزب وتعليمه الالتزام السياسي.

• ممارسة دور الوسيط أو همزة الوصل بين الرأي العام والحكومة.

• اختيار القادة لانتخابهم من قبل الشعب، الأمر الذي يستدعي مستوى من الوعي لدى المواطنين لضمان الاختيار الصحيح.

وأعتقد بأن هذه المهام تزداد أهميتها في حالة البلدان التي تمر بمرحلة تحولات عميقة، على صعيد السياسة والاقتصاد والاجتماع، وهي مهام تقليدية في حياة الأحزاب، لكن التركيز هنا على الفاعلية، أي كيف يمكن أن يؤدي الحزب هذه المهام بفاعلية؟ والإجابة هنا تقتضي النظر إلى روح المهمة.

ويرتكز ما سبق بشكل أساسي على عملية التنشئة السياسية التي تقوم بها الأحزاب، أي عملية تعلم القيم والاتجاهات السياسية والأنماط الاجتماعية ذات المغزى السياسي، وهي عملية مستمرة يتعرض لها الإنسان عبر مراحل حياته المختلفة، وقد تقتصر هذه العملية في مرحلة ما على مجرد نقل الثقافة السياسية من جيل إلى آخر، وقد تستهدف إحداث تغيير جزئي أو شامل في عناصر ومكونات هذه الثقافة، من خلال تكوين رؤية المواطن نحو المجتمع والسياسة، وذلك عبر الأدوات الإعلامية للحزب أو عبر مختلف النشاطات التثقيفية التي تحقق هذا الهدف، ما سبق يتطلب من الأحزاب تحديد القضايا التي تواجه المجتمع، وحاجاته، والعمل عليها تباعاً وفقاً لأولويتها.

إنّ تنظيم الدورات المركزية بهدف الإعداد والتثقيف، يشكل نقطة انطلاقة حقيقية في فكر البعثي، وله الدور الكبير في تزويد الحزب بالكوادر والأطر القيادية، لكونها تؤمن استمرارية الحركة الحزبية، ولكن بإيديولوجية منفتحة، وليست جامدة، فالإيديولوجيا يمكن أن تتغيّر لمجاراة الواقع، إذ إن الحياة في حالة تطوّر دائم ومستمر وتتطلب حضور العلمية والمنهجية لدى قراءة الواقع.

إذاً، يعد الإعداد والتثقيف والإعلام، مهمة جوهرية وأساسية في العمل الحزبي بشكل عام، وللأحزاب الجماهيرية بشكل خاص، التي تهتم بالكم والكيف معاً، على اعتبار أنها أحزاب تستقطب كل الشرائح، وهذا ما يجعلها أمام تحدٍ رئيس، وهو العمل على إعداد وتثقيف كوادرها بالشكل الأمثل، نتيجة اهتمامها بالتأييد الشعبي الواسع واستقطاب الأنصار، وهذا التحدي يقتضي التخطيط للتعامل مع التنوع في مستويات الوعي لدى الكوادر ولدى الجماهير على حدٍ سواء، وهو تحدٍ ناتج عن تنوع الشرائح وتنوع مستوى التحصيل العلمي لأعضاء الحزب، ما يجعل تلك الأحزاب بحاجة لبرامج ومناهج تثقيفية مختلفة يحاكي كل منها مستوى معين لشريحة محددة من أعضاء الحزب، بما يؤمن استخدام طاقاتها وخبراتها بالشكل الأمثل.

لا يقف الحال هنا بل يمتد إلى أبعد من ذلك وهو ما يرتبط بالتطور الكبير الحاصل في الوعي الجمعي للبشرية واختلاف القضايا التي تواجهها واختلاف أدواتها في الوصول، فمثلاً في حين كان الصراع الإيديولوجي العالمي خلال القرن الماضي بين معسكرين رئيسين هما المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، فإن الأخير قد أفرز مجموعة من التيارات والاتجاهات الأكثر تدميرية لإنسانية الإنسان، ويتمثل ذلك في الليبرالية الحديثة، معتمداً على أداته التكنولوجية التي يستغلها في تطبيق نظرياته الجديدة على البشرية، فإن مواجهة تلك التطورات لم تعد تقتصر على الآليات والأساليب السابقة في الإعداد والتثقيف للكوادر الحزبية، بل أصبح من المهم إنتاج فكر حضاري قادر على تحصين الجماهير وإعادة جذبها، علماً أن إنتاج هذا الفكر منوط بالحزب ذاته وبمفكريه ومنظريه وبالمفكرين المقربين منه، ومنوط بتحديث بناه لتصبح أكثر فاعلية وأكثر قدرة على التعاطي مع مخاطر العصر.

ومن ثم فإن الجيل الرقمي الجديد في سورية لم يعد بالإمكان مخاطبته بأسلوب الخطب الحماسية والشعارات الرنانة فقط، والتي كانت وسيلة مهمة في القرن المنصرم، بل لا بد من استخدام التكنولوجيا كوسيلة لنقل الخطاب، ليس التكنولوجيا بمعناها المجرد، أي أن أنقل الخطاب ذاته ولكن بأداة التواصل الحديثة، بل المقصود هنا نقل الخطاب بلغة العصر، أي عبر تقنيات العالم المعاصر، فمثلاً تحديث الصورة البصرية للحزب أمر ضروري ومهم، وبصورة أبسط، فإن العمل على إعادة تصميم شعار الحزب بما يوصل رسالته وبما يظهر مضمونه، عبر مقطع فيديو بسيط لا تتجاوز مدته ثوانٍ قليلة أكثر فاعلية من آلاف الندوات التي يمكن أن تعقد للغرض ذاته، وقس على ذلك.

إذاً، ليس المطلوب اليوم فقط أن يكون لحزب البعث العربي الاشتراكي موقعاً إلكترونياً، وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وصحيفة وقناة يوتيوب وغيرها من الأدوات، لكن المطلوب تفعيل كل الأدوات في إيصال المضمون وفي حمل الرسائل التي يود الحزب إيصالها إلى الجماهير، ومن ثم خلق حالة تفاعل لشريحة جماهيرية كبيرة، من فئة الشباب أو من يمكن تسميتهم بالجيل الرقمي السوري الأصيل، وهذا تحدٍ على البعث مواجهته، نظراً لأن الوصول إلى شريحة الشباب التي بدأت تظهر في المجتمع اليوم، والمتأثرة جداً بالمحتوى الرقمي الذي يصلها من جهات مختلفة، يمثل قدرة الحزب على تجديد نفسه، عبر خلق قناة تواصل بينه وبين الجماهير، تؤمن لجماهيره احتكاكاً سليماً بالعولمة، من دون أن تتأثر وتندهش وتنساق، فالاحتكاك بحضارات وثقافات ومنتجات فكرية جديدةـ أمر مهم لتحقيق التنمية على المستوى الوطني، لكنه مشروط ببناء جيل وطني محصن ومربوط بمرجعية إعدادية وتثقيفية وتوعوية.

ولقد أشار الرفيق الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي في كلمته الافتتاحية للاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب، منذ عدة أشهر، إلى مسألة إعادة النظر بالبنى الحزبية، وكان الرفيق الأمين العام واضحاً بأن المطلوب ليس بالضرورة نسف بنية برمتها، وإنما تحديثها وتطويرها لتكون فاعلة في عالم اليوم وأدواته وأساليبه، ومنذ تأسيسه اعتنى حزب البعث بالبنى المسؤولة عن عملية الإعداد والتثقيف والإعلام، ومن المعروف أن كل البنى الحزبية على مختلف مستوياتها من الفرقة وحتى القيادة المركزية تضم مكتباً تحت مسمى مكتب الإعداد والثقافة والإعلام، وهناك مدرسة الإعداد الحزبي المركزية، والمدارس الفرعية في المحافظات، وهناك دار البعث للنشر والتوزيع، وهناك مركز الدراسات، وكلها مؤسسات مهمة، يقتضي الوضع الراهن دعمها لأنه مطلوب منها دور أكبر مما تقوم به اليوم.

كما أن ظروف الحرب التي أنتجت تشوهات عميقة في المفاهيم والمصطلحات وفي الهوية والانتماء وغيرها، تقتضي تشريحاً للمجتمع، من قبل هيئات بحثية واستشارية، تدرس التحولات التي حلت به، وتقدم الرؤى والحلول، ومن ثم يتم طرحها عبر أدوات الحزب في التواصل مع الجماهير، لإثارة الحوار والنقاش، ومن ثم نقل مطالب الجماهير إلى السلطة، أي خلق القنوات الكفيلة بدور فاعل للحزب في إشراك الجماهير بصنع السياسات العامة ومراقبة تنفيذها.

فمثلاً شكل المكتب الاقتصادي في القيادة المركزية لحزب البعث هيئة استشارية، لا بد أن من مهامها دراسة الوضع الاقتصادي وتقديم المقترحات حوله، وهو أمر يمكن سحبه على جميع مكاتب القيادة، أي تشكيل هيئات استشارية تكنوقراطية لكل مكتب من مكاتب القيادة، بهدف تعزيز عملية صنع القرار، ويمكن أيضاً إعادة تفعيل مركز دراسات القيادة المركزية، وتحويله إلى خلية تفكير خاصة بالحزب، على أن يستقطب خبراء من مختلف الاختصاصات والمشارب.

يدأب الأمين العام لحزب البعث الرفيق بشار الأسد، إلى المضي في تطوير أداء البعث، بحيث يكون قادراً على الاستجابة لمتطلبات المرحلة التي يمر بها وطننا، وهذا ليس جديداً على البعث إذ إنه اعتمد منهج التطوير والعمل المراحلي منذ تأسيسه، وعندما كان الحزب يصاب بنوع من القصور سرعان ما ينتصر على قصوره ويتصدى لمكامن الخلل، منطلقاً في مسار تطويري يستجيب لتحديات كل مرحلة من المراحل.

وامتلاك البعث القدرة على تطوير ذاته هو العامل الأساسي الذي عزز قيادته للتحولات الاجتماعية والسياسية في تاريخ سورية المعاصر، وصانه من الانهيار والتراجع في زمن تتراجع فيه الأحزاب على المستوى العالمي، وعلى الرغم من الإشكالات والمشكلات التي تعترض عمل الأحزاب، كان الخط بشكل عام سليماً تصاعدياً.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن