من دفتر الوطن

الانحدار إلى (الدستوبيا)

| حسن م. يوسف

تفرم الإعلانات سياق المسلسل الدرامي وتفتت وحدته بشكل يغلب عليه التعسف وعدم الدراية حيث يصل إلى المتلقي متبلاً بالمنظفات ومختلف المواد الاستهلاكية، ولهذا السبب لم أر أي مسلسل خلال الموسم الرمضاني الماضي، بل شاهدت الأعمال مسجلة وخالية من الإعلانات.

نعم في كل بلدان العالم تدمج الإعلانات التجارية في سياق المسلسلات، لكن ذلك يتم بشكل مدروس، إذ تعرض الإعلانات عند فواصل محددة ولزمن محدد، فـ«الطول القياسي للإعلان التلفزيوني، حسب شركة «thinkbox» المتخصصة في الإعلانات التلفزيونية هو 30 ثانية» أما عندنا نحن العرب فالأمر منفلت لدرجة الفوضى! فالإعلان، في معظم محطاتنا، لا يبرمج عند فواصل مدروسة، بل يزج به بارتجال في ذروة المشهد الدرامي، وفي بعض الأحيان يأخذ هذا الأمر بعداً كارثياً عندما يجعر ممثل ضعيف الأداء رديء الصوت (مغنياً) كلمات الإعلان على لحن أغنية شائعة!

ثمة مؤشر مقلق ازداد إحساسي بخطورته مؤخراً، هو توجه أهم الأعمال الدرامية السورية التي عرضت هذا العام نحو (الدستوبيا) (Dystopia) بدرجات متفاوتة.

معنى الدستوبيا باللغة اليونانية (المكان الخبيث) ويقصد به في عالمنا المعاصر أدب وفن «المدينة الفاسدة» الذي يركز على الجانب المرير من الواقع ويغوص في نسيج المجتمع المنحل والمخيف الذي تسوده الفوضى، والخراب، والقتل، والقمع، والفقر، والمرض، وحكم القوي على الضعيف. ففي عالم الدستوبيا يتجرد البشر من إنسانيتهم ويتحوّلون إلى مجموعة من المسوخ المنفلتة التي تتصارع بضراوة.

والدستوبيا تشبه اليوتوبيا من حيث إنها خيالية مثلها، فاليوتوبيا تعبر عن حلم الإنسان بعالم مثالي تحكمه الأخلاق والمبادئ، في حين تعبر «الدستوبيا» عن حضيض الواقع المرير المنفلت من الأخلاق والمبادئ.

صحيح أن الدستوبيا ليست ابنة البارحة، فبعض الباحثين يرون أن جذورها تضرب عميقاً في تاريخ الأدب والفن. وبعضهم يقولون إن مسرحية «أوديب ملكاً» التي كتبها سوفوكليس، وجرى تمثيلها لأول مرة نحو 429 ق. م هي من أقدم الأعمال الدرامية التي تتجلى فيها مظاهر الدستوبيا، ومع أن المسرحية تؤكد بأن السعادة وهم زائف، لكنها برأيي «لا تؤكد أن الإنسان كائن مسيّر ولا حرية له في فعل أي شيء» كما يزعمون، فقد كان أوديب حراً عندما اختار أن يعرف الحقيقة رغم علمه أن معرفته لها ستدمره.

مناسبة هذا الكلام هو أنني لاحظت في أعمال هذا العام حضوراً متزايداً للعناصر الدستوبية في أهم أعمالنا الدرامية، والمقلق هو أن الكتاب الذين أبدعوا هذه الأعمال يمزجون الدستوبيا الخيالية بالوقائع التاريخية الحقيقية والممارسات الحياتية اليومية، وهذا أمر ينطوي على مجازفة كبرى، لأن جمهورنا، السوري بشكل خاص، يعتمد على التلفزيون كمصدر شبه وحيد للمعلومات، ما يجعل المشاهد يعتقد أن تاريخنا هو ما يراه على شاشة التلفزيون وخاصة عندما يقدم في الأماكن الحقيقية وفي سياق الوقائع التاريخية.

لست أنكر وجود الفاسدين القساة عديمي الأخلاق في مختلف شرائح مجتمعنا، بل أستطيع القول إن بعضهم يتفوقون في انحطاطهم على شخصيات عوالم (الدستوبيا)! لكن إجرام وفساد هؤلاء لا ينفي، بل يؤكد وجود قوى خيرة مضادة تصارعهم وتحد من أثرهم.

فلو كنا نعيش في دستوبيا، كما توحي بعض المسلسلات، لما كان هناك الآن بلد اسمه الجمهورية العربية السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن