قضايا وآراء

الأسد في الكرملين.. تحديد التخوم

| عبد المنعم علي عيسى

لا تتوافر معطيات كافية لرسم ملامح الصورة التي رسمتها زيارة الرئيس بشار الأسد إلى موسكو يوم الأربعاء الماضي، فلا البيان المشترك احتوى على بعض من ذلك، مما هو لازم لعملية الرسم آنفة الذكر، ولا الطرفان أعلنا عن توقيع أي وثائق عقب انتهاء المفاوضات وفقا لما ذكره ديمتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين، ولذا فإن محاولة فهم الصورة يمكن أن تستند، فحسب، إلى المناخات التي جرت الزيارة في سياقها، على التحديات التي راحت تفرض واقعا متغيرا بدرجة سريعة فاقتضت حدوثها على عجل.

جاء في البيان الروسي السوري الصادر في نهاية الزيارة أن الرئيسين التقيا لمناقشة «مجمل جوانب العلاقة بين البلدين، والوضع في منطقة الشرق الأوسط، والتطورات المتسارعة التي تعيشها، وجوانب التنسيق المشترك للتعامل معها»، ومن الواضح هنا أن مرامي الزيارة كانت لتحديد التخوم والهوامش فيما إذا استمر التصعيد الحاصل في المنطقة والذي بات يهدد بامتداد النار نحو مديات تصبح معها هذي الأخيرة كتلة من اللهب القابل للتناثر في ظل كل هذا «اليباس» الواضح في «كرومها» حتى غدا «الإخضرار» حالة شاذة.

من الممكن ربط الزيارة بالجهود الروسية الرامية لإصلاح العلاقات السورية التركية في ظل «الفتور» الذي قابلت به دمشق «حرارة» التصريحات التي راحت تصدر عن أنقرة بمتوالية ذات طابع تصاعدي، وكذا ربطها بالحرب المستعرة في غزة والتي باتت احتمالات اتساع رقعتها تزداد بفعل استمرار تدفق الدم الذي بات يستسقي المزيد منه قياسا للنظرة المتشكلة عند الكثيرين بأن ما يجري هو فصل لا ينفصل عن مشروع «إبادة جماعية» راحت إسرائيل تمارسها كلما سنحت الظروف لها بذلك، كما لا يمكن إغفال أن الزيارة قد تستحضر العلاقة السورية الروسية في ظل مسعى أوروبي لإعادة العلاقة مع دمشق، وذاك فعل يمكن الترجيح بأنه ما كان ممكنا حدوثة لولا التماس هؤلاء لما يشبه «الضوء الأخضر» الأميركي الذي بدا حذراً ومحاولاً التواري وراء الستار بانتظار ترقب النتائج التي سوف يصير إليها ذلك المسعى، وبمعنى آخر يمكن القول إن موسكو قد «يقلقها» ذلك النوع من «الغزل» الأوروبي المستجد الذي كان يبحث، عشية اندلاع الأزمة السورية، عن مصادر طاقة بديلة عن الغاز الروسي، والفعل من حيث النتيجة كان قد لعب دوراً أساسيا في وصول النيران السورية إلى ما وصلت إليه، وعليه فإن من المرجح أن موسكو تتحسب لأن يكون لذلك «الغزل» دوافع من نوع إعادة القذف بالكرة من جديد في ضوء سعي دمشق لاستعادة مركزيتها كعاصمة لكامل جغرافيتها التي تمتد على مساحة 185 ألف كيلو متر مربع.

يستند الخطاب الروسي، في مسعاه لتحقيق المصالحة بين دمشق وأنقرة، إلى قاعدة تقول إن اللحظة الراهنة تقول بما لا يدع مجالا للشك بوجود مصلحة روسية سورية تركية في الذهاب نحو التلاقي ارتباطاً بمخاطر مشتركة لها علاقة بالتهديد الذي يطول وحدة وسلامة الأراضي السورية، والتهديد عينه يطول نظيرة هذي الأخيرة التركية انطلاقا من أن «منبع التهديد» واحد، إذ لطالما سعت «الإدارة الذاتية»، عبر مراحلها إلى تكريس المزيد من القلق على ضفاف منطقة مشبعة بأنواع لا تحصى من هذا الأخير، وهي بسلوكها هذا، تدرك أم لا تدرك، تضع المنطقة على شفا هاوية قد تذهب إليها هذي الأخيرة مضطرة بعيداً عن حسابات من نوع الوجود العسكري الأميركي الرابض بشكل غير شرعي في مناطق شرق الفرات السوري، والذي يتشارك الثالوث السابق، روسيا وسورية وتركيا، النظرة تجاهه بوصفه عامل تهديد لاستقرار المنطقة برمتها، والغريب في الأمر أن «لعبة القمار» التي ما انفكت «الإدارة الذاتية» تمارسها منذ نحو عقد كانت قد شهدت مؤخراً طبعة تبدو غريبة وهي تشير إلى مدى «إدمان» القائم بالفعل على تلك اللعبة.

تقول تقارير سرت في الآونة الأخيرة، وبعضها صادر عن «الإدارة الذاتية» نفسها، إن هذي الأخيرة قد أرسلت، عبر وسطاء كما سمتهم، إلى أنقرة رسائل عدة بعضها يحتوي مضامين مفادها أن «التقارب بين الإدارة الذاتية وأنقرة أجدى لهذي الأخيرة من تقاربها الذي تسعى إليه مع دمشق»، والمؤكد هو أن «مرسل» هذه المضامين لا يبدو مدركا جيداً لطبيعة النظرة التي لا يمكن لأنقرة تغييرها تجاهه، وفيها، أي في تلك المضامين، خلط كبير ما بين «التكتيك» وبين «الإستراتيجيا»، إذ لطالما كانت الطبعة التركية لهذي الأخيرة تقول إن «التهديد الأكبر الذي يعترض الجغرافيا والأمن القومي التركيين نابع حتما من الإيديولوجيا التي يتبناها حزب العمال الكردستاني».

من الصعب الآن التنبؤ حول كيف ستتعاطى دمشق مع مطلب تركي يرمي لذهاب دمشق نحو ما ذهبت إليه بغداد قبل نحو شهرين عندما صنفت هذي الأخيرة «حزب العمال الكردستاني» على قائمة الفصائل المحظورة و«المتمردة»، فدمشق لا تزال تنظر إلى هذا الأخير على أنه مكون سوري مطالبه يجب أن تحل داخل «البيت الوطني»، لكن ذلك يفرض، على الفصيل آنف الذكر، انتهاج سياسات من شأنها تدعيم تلك النظرة لا العكس.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن