المكاشفات وفتح الأوراق
| إسماعيل مروة
في كل يوم نسمع عن بطل قال كلمة، ويتم التعامل معه ومع آرائه على أنها كشف عظيم، ويتم تداول ما تفضل به على أنه صاحب رأي مغاير أو ما شابه ذلك، وفي كل يوم نسمع عن اتهام أو كلمة تنال من واحد درويش لا علاقة له بغير عمله، وأزعم أنه آن الأوان للمكاشفات وفتح الأوراق للخروج من الواقع المتردي، خاصة مع الحديث عن بوادر إصلاح بدأت معالمها، وينتظر الناس القادم بعد الانتخابات لمجلس الشعب وما يتلوها، ومن الضروري أن تبدأ المكاشفات التي لا تقوم على المزايدة والأحاديث والأفعال الطائفية والمذهبية والمناطقية والعشائرية، مع الانتباه إلى أنه وخلال الحرب على سورية عمل الكثيرون من ضعاف النفوس والحاقدين والمصلحيين على التأسيس لمرحلة قادمة فيها تعزيز لمفهومات كانت وراء الحرب واشتعال أوارها.. علينا أن نفتح الأوراق من خلال النقاش، والبقاء على الطاولة، وعلينا – أقصد أصحاب القرار- أن نخرج من إطار تقريب أناس، ومنحهم شرف تمثيل الجانب المعارض، فالمعارضة تكون للفساد وما ينتج عنه بغية الإصلاح، والإصلاح التدريجي للوصول إلى واقع مقبول إلى حد ما..
في الحرب على سورية كانت مفاجآت صادمة، ففي كل نادٍ وجلسة كنا نجتمع، وهذا الذي يعتذر لتأخره لأنه كان عند المسؤول الفلاني، وآخر يتواصل على وجه الحقيقة مع أصحاب الحلّ والعقد، وثالث لم يبلغ مرحلة الفطام العلمي والمهني يحصل على ما يريد ويتربع مكانة عليا، وبين عشية وضحاها يلبس أفضل الماركات، ويقتني أهم السيارات، وتفتح له الأبواب الموصدة، وربما جلس أمامك لتطرح عليه مشكلة حياتية ليحلها لك، وآخر يدخل وقد تأبط كيساً فاخراً للمائدة جاء به من أحد أصحاب الحل والعقد، ويقولها للآخرين مباهياً بأنه من عند فلان، وآخر يوهب منحاً.. وأذكر كل هؤلاء وبالاسم، بل إن عدداً منهم عندما يزورني لفنجان قهوة، قد يخرج قبل وصول القهوة، أو في منتصف الفنجان، فقد وصله هاتف من جهة عليا للقاء، وفي الأغلب هو صادق في ذلك.. واستمرت اللعبة القميئة، وصنعت طبقة من مثقفي وإعلاميي السلطة الرديفة بولاءات فردية، والغريب المتوقع أنهم جميعاً ودون استثناء تحولوا إلى معارضة شرسة، والشراسة هنا مسوّغة، لأنهم اطلعوا على أشياء لا يحسن أن يعرفوها، وفتحت لهم أبواب المارد التي أدهشتهم، وبعضهم صار يصدق بأن مكانته هنا.. وكنا نرى واحدهم على شاشة، فصرنا نراه على شاشة أخرى، وأصدقاء السهرة الذين شربوا (البلو) القادم من جناب المسؤول تحولوا إلى دعاة حرية، وكأن البلو كان مضروباً، وكثير من هؤلاء سقطوا في الطريق أو في الزحام، أخذوا ما أخذوا هنا، وتمتعوا بما تمتعوا على حساب الناس، وغادروا ليقبضوا هناك وعلى حساب الناس أنفسهم، لكن من جيب أخرى، وأطرف ما في الموضوع وأحلى ما في الأمر (الموت) فحين يصل الموت إلى واحد من هؤلاء، تبدأ عملية فتح الملفات، والتي يظن فاتحها أنه يعري الراحل، فإذا به يعرّي الراحل ونفسه والمنظومة مما قبل الحرب وبعدها.. فلننظر إلى آليات التعرية التي تمارس، سواء كانت موافقة لآرائنا أم لم توافق، فالغالبية العظمى التي يتم الحديث عنها ،وهذا واقع وحقيقة، هي من الشرائح المقرّبة من مواقع السلطة على اختلاف المستويات، فهل كان قربها من السلطة هو الذي عزز لديها قناعات باستحقاقها أن تكون؟
هل كان اقترابها من مواقع التنفيذ وراء زراعة الوهم في نفسها في أنها ذات قيمة؟
سواء كانت هذه الطبقة من المثقفين والمبدعين في جناح المعارضة أو الداخل، فهي ذات لبوس واحد، وكل جانب يحاول أن يعرّي الآخر ويظهر عوراته، كما يظن، لكن المتابع والمراقب تتملكه الخشية من هؤلاء من أي جانب كانوا، فهذا يريد أن يبرئ نفسه، وذاك يريد أن يكشف ماضي هذا..!
وأكثر ما يكون هذا في الرحيل، إذ تصل عمليات التعرية إلى مرحلة متقدمة لتظهر للناس أن هؤلاء كانوا مصنوعين صناعة، وأن يد السلطة هي التي جذبتهم من القاع لتجعل منهم أناساً موقرين ميسورين!! والذي يتحدث لا يقل عن أولئك، وهو أيضاً مصنوع صناعة، وإن اختلفت طرقات الوصول والخواتيم..!
كل هؤلاء وأمثالهم عبر الأزمان ضاعوا ورحلوا، ولم يبق غير المثقفين الحقيقيين الذين صنعتهم جهودهم وثقافتهم، سواء أنعمت عليهم السلطات أم لم تنعم، فهي خارج دائرة اهتمامهم، وهم الذين شكلوا عوالمهم بالجهد والتعب والمثابرة، لذلك قد لا يشعرون بكل ما يدور حولهم من خلال كائنات هلامية صنعت في غفلة من الزمن، وضاعت لأنها لم تستمرئ الإبداع الحق.