قضايا وآراء

«قسد».. نحو محاولة خلط الأوراق من جديد

| عبد المنعم علي عيسى

باتت المناخات المحيطة بمشروع «الإدارة الذاتية»، الذي يمثل سلطة أمر واقع في مناطق شرق الفرات بدعم وإسناد أميركيين، أكثر توتراً مما عهده ذلك المشروع على امتداد عمره القصير الذي لا ينوف عن السنوات العشر، فالضغوط راحت تتقاطر من كل حدب وصوب حاملة معها تباشير أعاصير يمكن لها أن تهب في أي لحظة، وما كان يعتدّ به لحماية «القارب» تراجع فجأة معلناً أن «الظروف غير مناسبة راهناً» لخروج هذا الأخير في رحلة الإبحار التي أرادها شهر حزيران المنصرم قبيل أن يعلن عن تأجيل «الرحلة» لشهرين مقبلين من دون تحديد موعد، ولذلك حساباته التي تفوق كل الحسابات عدا واحدة منها تلك التي تتعلق بما يدور في الذات والذهنية التركيتين التي لا تزال أنفاس مصطفى كمال أتاتورك حاكمة لها بدرجة لا بأس بها، وأتاتورك، ذاك، سبق له أن وصف اتفاقية «سيفر 1920»، التي أوصت بقيام «كيان كردي» كان في جله الساحق على أراض خاضعة لتركيا الآن، بأنها «قرار بإعدام تركيا»، ثم أطلق حرباً لم يتوقف أوارها إلا بعد توقيع «اتفاقية لوزان 1923» التي نقضت حكم الإعدام سابق الذكر وفق ما رآه أتاتورك نفسه.

من المؤكد أن أخبار التقارب السوري التركي التي راحت تتكاثف هذه الأيام، تمثل مرحلة متقدمة من تلك الضغوط، فالفعل من حيث النتيجة، فيما لو سار إلى نهاياته المرجوة له، سوف يضع «المشروع» بين فكي كماشة مع الأخذ بعين الاعتبار النجاح التركي، شهر نيسان المنصرم، في تحييد الجغرافيا العراقية التي لعبت في السابق دور «خزان» إمداد لذلك المشروع لاعتبارات عدة، ناهيك عن أن المحتمل المقبل من تلك الضغوط يبدو أكثر سوداوية من كل ما سبق، فوصول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى سدة السلطة في واشنطن من جديد، يمكن له أن يعزز سيناريو الانسحاب الأميركي من شرق الفرات، ولا يزال في الذاكرة قراره الشهير الذي اتخذه في هذا السياق عام 2019 من دون أن يجد له طريقاً في التنفيذ لاعتبارات كانت تتعلق بالنظرة التي يتبناها «البنتاغون»، لكن ترامب، فيما لو عاد، لن يكون أسير تلك النظرة خصوصاً بعيد إعلانه، خلال حملته الانتخابية الراهنة، أن صراعه ضد «الدولة العميقة» إبان ولايته الأولى لم تكتمل فصوله بعد، وأن المهمة يمكن لها أن تكتمل مع ولاية أخرى جديدة.

في خضم هذه الرياح العاتية والمتوقع المزيد منها، قررت «قسد» القيام بخطوة لا يفهم منها سوى أنها محاولة لخلط الأوراق من جديد، والعودة بالزمن إلى مطارحات العام 2014، لذلك أعلنت الأسبوع الماضي عن إصدار «عفو عام» شمل نحو 1200 عنصر سابق من تنظيم «داعش» ثلثهم من العراقيين، وفق مصادر قريبة منها، والرسالة هنا التي يطرحها هذا الرقم الأخير موجهة للحكومة العراقية التي مدت جسورها نحو دمشق ثم عملت على فتح «تفريعات» لها يمكن أن تصل الاثنين (بغداد ودمشق) بأنقرة، ولعل خطوة «قسد»، التي تمثل «ذراً للنار» تكشف مدى الاحتقان الذي يمر به «المشروع» برمته، وتنبئ بإمكان أن يذهب القائمون عليه نحو إشعال المزيد من الحرائق، ولربما فكر هؤلاء أيضا، في الحال هذه، بشد عصب «التحالف الدولي» الذي خبت تحركاته بدرجة باتت مقلقة لـ«قسد» كما يبدو.

هذه الخطوة ترافقت مع جهود سياسية عرضت لها العديد من المنصات القريبة من «الإدارة الذاتية» و«قسد»، وهي تتلخص بمحاولة فتح قنوات مزدوجة بعضها ينحو باتجاه دمشق، وبعضها الآخر ينحو صوب أنقرة على الرغم من أن فعلاً كهذا الأخير يبدو كمن يعمل على إنضاج «طبخة حصى» لاعتبارات لها علاقة بالنظرة التركية حيال المشروع برمته، لكن الفعل المزدوج هنا يشير بوضوح إلى إحساس طاغ بـ«خطر وجودي» ما انفك يتنامى في الآونة الأخيرة الأمر الذي يمكن لمسه بوضوح عبر تصريحات متزعم «قسد»، مظلوم عبدي، وقال فيها: «نحن منفتحون على الحوار مع تركيا ومع دمشق»، ولعل الظروف المحيطة بذلك التصريح هي التي تعطيه بعداً أكيداً يطول الإحساس بذلك النوع من الخطر.

مقاربات «قسد» للمسائل السياسية والعسكرية تظهر هذه الأخيرة على نحو يكاد يتماهى مع «معسكر للأغرار» أقيم خصيصاً لتأهيل الحشد الذي احتواه بتلك المسائل، لكن النتائج كانت عكسية تماماً، ففي الأولى، أي السياسية، كان النهج المستخلص يقول بـ«ضربة على المسمار وضربة على الحافر» الأمر الذي تبرزه سردية الانفتاح على أنقرة ودمشق ومعها محاولات استمالة موسكو تحسباً لقرار أميركي بالانسحاب بات مرجحاً كيفما جاءت نتائج 5 تشرين ثاني المقبل، وفي الثانية، العسكرية، كان النهج يقول إن ما جرى حشده من عديد وعتاد كافٍ لمواجهة المخاطر المحدقة مما يوضحه تصريح عبدي الذي قال قبل أيام إن قواته «تضم 100 ألف مقاتل، وهم مدربون على استخدام أحدث الأسلحة»، وكأني بميزان القوى الذي تُخاض على أساسه الحروب، وتتحقق فيها النتائج المرجوة منها، يقوم على تلك الثنائية التي ذكرها عبدي فحسب، فالمناخات المحيطة بأي صراع شديدة التأثير فيه حتى تكاد تُحسم نتائجه قبيل أن تدور رحى المعارك.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن