ثقافة وفن

«عندما تنتفض الأرض» فلسطين في الوجدان والغاية … د. العطار: تبقى كلمة المقاومة نشيداً ماسياً على فم الدهر ويبقى لها في الواقع دوي

| إسماعيل مروة

بعربية مترفة باذخة لا تتجلى لغير المبدعين الكبار، ترسم السيدة الدكتورة نجاح العطار صوراً حية نابضة عن الحق العربي الفلسطيني، وتوثق ما جاءت به قريحتها، وما انبلج عنه موقفها الفكري العروبي الحر تجاه القضية الفلسطينية، وتسجل بريشتها البارعة موقف سورية الذي لم يتغير ولم يتزحزح تجاه فلسطين أم القضايا، وتعيد إلى الذاكرة عدوانات سابقة على غزة الأبية، لتخبر الأجيال بأن العدوان على غزة اليوم ليس جديداً، وبأن غزة شوكة في حلق العدو الغاصب، وها هو يصب جام حقده عليها مرة تلو أخرى.

توثيق لموقف ثابت

سبع وعشرون دراسة أدبية سياسية، توثيقية مواكبة احتوى كتاب (عندما تنتفض الأرض) الذي صدر عن وزارة الثقافة السورية- الهيئة العامة للكتاب من تأليف السيدة الدكتورة نجاح العطار، وقد أخلصته للقضية الفلسطينية في مواجهة العدو الصهيوني، ووثقت الموقف السوري الثابت في دعم القضية الفلسطينية وحركة المقامة العادلة الساعية إلى استرداد الأرض والحقوق، وفي تقديمها لهذه الدراسات العميقة التي كانت مشاركات في منتديات أو أوراق عمل في مؤتمرات تخص القضية الفلسطينية، في تقديمها الذي دونته تبدأ من الجرح النازف اليوم في فلسطين، وفي غزة تحديداً، لتنقل الألم بلغة بليغة عالية فيها من الألم والكبرياء الكثير «القضية الفلسطينية في حياة أمتنا، هي قضية القضايا، وقد ظلت حية وعلى تطاول الأعوام، تجترح أعجوبتها، في نضال لا هوادة فيه، ولا انقطاع، تنتصر حيناً، ويدركها الإعياء أحيانا، في مواجهة إسرائيل الباغية، والمدافعين عنها أميركا في الطليعة».

وفي هذا تؤكد الدكتورة العطار استمرارية الكفاح من أجل فلسطين، وتسجل بواقعية بأن تطاول الأيام لم يغير من الأمر شيئاً، مع أن الانتصار يأتي حيناً، ولكن الإعياء يدرك أصحاب القضية أحياناً، إنه إعياء من البغي وداعميه وليس هزيمة، ولابد من العودة إلى العزيمة بعد الإعياء، لأن الفعل المقاوم لا يمكن أن يعود القهقرى، ولابد أن يستمر وأن يستعيد ألقه.

«إننا والأحداث تتالى على الأرض المحتلة، نحيي من القلب المقاومة الباسلة، ذلك أنها، في نظرنا وما نتمنى صنع أجيال، ومشعل أجيال تنهض بثقة وعنفوان.. ومن بين كل الكلمات التي غزلت من دم ونار، تبقى كلمة المقاومة نشيداً ماسياً على فم الدهر، ويبقى لها في الواقع دوي، وفي النفس دوي، إذ هي نبض وجدان يسمو بعشق الوطن، والكفاح من أجل استنهاضه.. لقد مات الموت على أرضنا، ونحن نتابع باعتزاز بطولات المقاومة في دروب النضال العنيد.. وواخجلتاه مما يجري على أرض فلسطين وفي ساحات غزة الصابرة.. جراحك يا غزة هي جراحنا، وشهداؤك هم شهداؤنا، والعدوان الواقع عليك هو عدوان علينا، والحصار عليك هو حصار علينا، على كل مدننا.. نيرودا قال ذات يوم: تسألونني لماذا لا أكتب عن الزهر؟ إذن تعالوا وانظروا إلى الدماء، تغطي شوارع تشيلي. وأنا أقول: إن جراحنا منذ عقود تنزف، وإن ضحايانا منذ عقود تغطي الساحات.. واحزناه يا فلسطين المجاهدة، ويا غزة الصابرة والمصابرة..».

توثيق ومشاركة وثبات يقوم على ثوابت تراها المؤلفة:

– حتمية الانتصار وإن تتالت الأعوام وتطاولت.

– الفكر المقاوم الذي ينتقل من جيل إلى جيل.

– تجذر القضية الفلسطينية في الواقع والنفس.

– المشاركة، وإن كانت بسيطة من أبناء الشعوب العربية.

– دماء الشهداء التي تزرع الأرض.

– فكرة مناهضة الاحتلال والظلم على مستوى العالم من بابلو نيرودا إلى غزة.

المذابح المتكررة

ليست الإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الصهيوني اليوم بحق غزة هي الأولى في تاريخ فلسطين والقطاع، بل هي سلسلة من جرائم متكررة بدأت منذ وجود الكيان، والكتاب يوثق لهذه الجرائم الممنهجة التي تكررت من جانب الكيان، وفي ذلك تسجل الدكتورة العطار هذه العدوانات التي طالت القطاع، ففي عدوان 2009 الذي شهده القطاع في كانون الثاني تقول الكاتبة: «وإذا كانت غزة اليوم تواجه هذه المذبحة بروح المقاومة المبدعة، بروح الانتماء إلى الأرض والكرامة والحق، فإنه لمن حقها علينا أن نكون جزءاً لا يتجزأ من مقاومتها»، كان ذلك قبل الربيع العربي المزعوم الذي صنعته القوى الاستعمارية لإضعاف الأمة العربية وإشغالها، وهنا تخاطب أهل غزة: «يا رمز البسالة.. إن درب اللهب هو وحده درب الكفاح، والقربان الأعظم الذي تقدمونه هو فدية نصر، والنصر كان دائماً بحاجة إلى ضحايا وبحاجة إلى قرابين».. وتؤكد الكاتبة في كلمتها لغزة عام 2009 أطماع العدو الصهيوني التي باتت اليوم واضحة للعيان بعد أن فعلت الفوضى الخلاقة فعلها في جسد الأمة العربية، ونحن يا غزة المفادية ندرك تماماً أننا أمام عدو محتل، إذا سمحنا له بأن يكتسح أرضنا في فلسطين، فسيكون ذلك إيذاناً باستمرار زحفه الذي لا يبقي على استقلال أو سيادة أو ثروة، في منطقتنا كلها، ولن يكون أحد بمنجى فالغزو يولد الغزو ما لم يردع، والمذبحة تجر المذبحة، والساحات تمتلئ بالأشلاء بعد الساحات، ولن تنقطع أنهار الدم، والتاريخ شاهد منذ النصف الثاني من القرن العشرين».

إنها الرؤية الفكرية العميقة والصادقة لما يجري على أرض غزة والوطن العربي إن لم يجابه العدوان الإسرائيلي، وتوقف آلة الحرب المدمرة التي يقف خلفها العالم العربي وغيره بكل قوته.

صور ماثلة لانتهاك الإنسانية

تسجل المؤلفة للتاريخ المشاهد التي تهز الإنسانية وتوثق الجرائم المرتكبة بحق الأطفال والأبرياء والآمنين، فقد يغيب الموقف السياسي، وقد يطوي الزمن الكثير من الأحداث، لكن صورة انتهاك الإنسانية والطفولة، وصورة البربرية تبقى ماثلة في كتب التاريخ والأدب، وأقتبس بعض هذه الصور التي دونتها بألم القلب ومداد الأدب بين الأمس واليوم.

غزة المقاومة الصابرة تناشد أمهات العالم حماية أطفالها من بطش القتلة وعدوانهم في المذبحة التي ترتكبها إسرائيل، والتي يذهب ضحيتها أطفالها بأعداد لا توصف.

إن ما ترونه على الشاشات من مشاهد رهيبة، لأطفال موتى أو جرحى، مقطعي الأوصال، مصابين بأفتك الحروق والشظايا لجدير بأن يزلزل الدنيا، ويصبغ الضمائر بالدم.

فلسطين في القلب، وعبثاً يحاولون انتزاعها منه، وفلسطين هي القلب، وعبثاً يجهدون لوقفه عن الخفقان، وفلسطين باقية ما بقي العرب، وعسير، كقطف النجوم، أن تزول الأمة العربية مهما كادت أميركا، ومهما تدججت بالسلاح إسرائيل.

إنهم يقتلون الأطفال عندنا، فهل سمع العالم؟ وهل وعى حقيقة الإسرائيليين الذين تجاوزا في الهمجية؟

كما رفعنا على مدى كفاحنا، راية فلسطين، نرفع اليوم شعار انتفاضتها، وهو شعار على بيرقه حجر، وفي قلبه مقلاع، وفي أطرافه دماء تستصرخ الدنيا: أن هبي واضطربي، ونسمع نحن، صرخة الحداء تلك، وتسبيحة التكبير ذاك، ودويّ النخوة المعتصمية.

ماياكوفسكي، الشاعر الكبير، قال: أمجد وطني الكائن مرة، وأمجد وطني الذي سيكون ثلاثاً.

مجد الوطن لا يقاس بما كان، وإنما بما سيكون، وفي هذا الإضمار للصيرورة، ينطوي تعظيماً، النضال الشاق المرير، والمفاداة والتضحيات التي يبذلها أبناء الوطن.

إن الضمير في صدرنا يفرض علينا أن نكون جنوداً في معركة المصير، ولا نخون ذواتنا، ولا نتنكر لقضايانا ومعتقداتنا، وأن ندرك أننا أمام عدو محتل.

إننا بالتأكيد، في طليعة المستهدفين، ومن الواضح أننا نواجه خطر هيمنة ذات أنماط فكرية وسلوكية تروّج، وتنجح أحياناً، للعنصرية والتفرقة العرقية والدينية، والعنف والجريمة، وكل إفرازات المجتمع الاستهلاكي، وكل مضار التكتلات المنحازة، المبنية على رؤية تسلطية بالنسبة للاقتصاد والثقافة والحضارة، وكذلك بالنسبة للانتماء والهوية.

الأبعاد المتعددة

إن أهمية هذا الكتاب «عندما تنتفض الأرض» كبيرة وذات أوجه، فهي من جانب تسجل للتاريخ وثائق قد تضيع في ثناياه، ومن جانب تمثل رؤية شخصية ثقافية وفكرية وسياسية وحضارية كانت ذاكرة لسورية عبر عقود عديدة، تعبر عن رأيها وسياستها المبدئية تجاه القضايا، وأكثر الجوانب أهمية يتمثل في شخص السيدة الدكتورة نجاح العطار التي مثلت قيمة معرفية وثقافية عربية وسورية، تحمل رؤى متعددة، ولها وزنها العلمي والفكري المميز على صعيد الثقافة في الوطن العربي والعالم، تميزت بمصداقيتها وانحيازها التام إلى أرضها وناسها.

هذا الكتاب يأتي في سياق جهد علمي خاص تبذله الدكتورة العطار منذ سنوات، وذلك من خلال توثيق الحياة الثقافية وتحولاتها، والحياة السياسية ومنعرجاتها، والحياة الحضارية وتقلباتها في سلسلة مهمة تسجل كل ما شهدته وقالته في الأدب والثقافة والفن، وهذه الدراسات تمثل شاهداً أمام ادّعاء الأدعياء، بكل ما كان من أحداث تجاوزت العقود الخمسة التي تحولت فيها الدكتورة العطار إلى رمز ثقافي نادر استحق الاحترام والتقدير، ونال تكريم السيد الرئيس بوشاح أمية لما تركته من أثر في الثقافة والفكر والحضارة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن