إسرائيل تسعى لتلميع صورتها من خلال صوريّة محاكمة جنودها
| محمد نادر العمري
في الوقت الذي كانت أنظار المسؤولين السياسيين والعسكريين ووسائل الإعلام العبرية والإقليمية والدولية، تترقب وتضع تقديرات للعمل العسكري الإسرائيلي المحتمل ضد حزب الله، بعد اتهامه بإطلاق صاروخ على مجدل الشمس في الجولان المحتل، ثارت في داخل الكيان قضية الفوضى التي أحدثها أنصار اليمين المتطرف، بعد اقتحامهم المحكمة العسكرية في محيط قاعدة بيت ليد والتي كانت تستجوب عشرة جنود متهمين بالاعتداء جنسياً على أسير فلسطيني في معتقل «سدي تيمان»، الذي يقع في قلب صحراء النقب، داخل قاعدة عسكرية تبعد قرابة 30 كم عن قطاع غزة في اتجاه مدينة بئر السبع.
هذا المعتقل الذي أنشأه الجيش الإسرائيلي مباشرة بعد بداية عدوانه على قطاع غزة في 27 تشرين الأول من العام الماضي، عقب عملية طوفان الأقصى، بأمر من وزير الدفاع يوآلف غالانت لجعل هذه القاعدة مكاناً للاحتجاز والاعتقال الإداري، بموجب ماعرف بـ«قانون المقاتلين غير الشرعيين»، والذي يجيز لرئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي اتخاذ قرار بتنفيذ اعتقالات إدارية واسعة من دون الحق بالاستئناف أو المرافعة القانونية، والذي شهد اعتقال أكثر من 1500 غزاوي منذ عملية طوفان الأقصى، لم يكن الوحيد بين المعتقلات التي أنشئت حديثاً بقرارات عسكرية، فإلى جانب معتقل «سدي تيمان» الذي خصص كسجن لمعتقلي غزة، أنشئ معتقلان في قاعدتي «عناتوت» و«عوفر» في الضفة الغربية، ليشهدا ما يشهدانه من أشكال التعذيب والتنكيل والإهانة للكرامة الإنسانية، في صورة مشابهة تماماً لما حصل بالمعتقلات الأميركية في العراق «أبو غريب» ومعتقل «غوانتنامو» الأميركي.
وعلى الرغم من أن أول التقارير التي انتشرت على وسائل الإعلام العبرية، حول الانتهاكات غير الإنسانية والأوضاع المأساوية التي تعرض لها المعتقلون الفلسطينيون داخل هذه المعتقلات ولاسيما في معتقل قاعدة «سدي تيمان»، كان في منتصف شهر كانون الأول لعام 2023، عبر صحيفة «هآرتس»، إلا أنه وبعد مرور قرابة أحد عشر شهراً على هذه الانتهاكات قررت المحكمة العسكرية الإسرائيلية التحقيق مع تسعة جنود من أصل عشرة، أكدت مشاركتهم في الانتهاك الجنسي الجماعي الذي تعرض له أحد المعتقلين، ولكن هنا يجب ألا يستوقفنا هذا الحدث من حيث التوقيت والمضمون والدلالة، ولاسيما أننا نتحدث عن كيان مغتصب يتباهى بكل أشكال العنصرية والصهيونية والتمييز والإرهاب الذي يرتكبه، ويبرره بذرائع دينية وقانونية وأخلاقية على مدى عقود سابقة!
مجموعة من النقاط يجب عدم إغفالها في تحليل ما حصل، وفق ما يلي:
أولاً- صحيفة «هآرتس» لم تقم بنشر تقاريرها حول حالات تعذيب المعتقلين في هذه القاعدة وغيرها نقلاً عن بعض المنظمات والجمعيات الحقوقية والإنسانية الإسرائيلية، انطلاقاً من أخلاقياتها الصحفية أو الإنسانية، بل لكون الصحيفة أقرب لما سمي اليسار في الداخل الإسرائيلي، وهي من أكثر وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تبنت موقفاً واضحاً في مهاجمة حكومة بنيامين نتنياهو منذ تشكيلها نهاية 2022، نتيجة ائتلافه مع اليمين المتطرف الذي وصل للسلطة لأول مرة، وكلف شخصيات منبوذة لتولي مناصب وزارية سيادية أمثال المالية والأمن والتراث، لذلك حرصت الصحيفة على توثيق انتهاكات اليمين لتصفية حسابات داخلية إسرائيلية، وحتى استطلاعات الرأي التي أجرتها هذه الصحيفة خلال الأشهر السابقة حول شعبية اليمين والمعارضة، كانت غير موضوعية، نتيجة إجرائها لهذه الاستطلاعات لدى أوساط اليسار أو الداعمين لهم، حتى المنظمات الحقوقية والإنسانية الإسرائيلية، لم تثر مثل هذه القضية إلا بهدف زيادة تمويلها من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، ومما يؤكد على ذلك عدم ممارستها لأي أشكال الضغط خلال الفترة السابقة.
ثانياً- هناك في المعتقلات الإسرائيلية اليوم ما يقرب من 10 آلاف معتقل فلسطيني، قرابة 80 بالمئة منهم تم اعتقاله بعد عملية طوفان الأقصى، يعانون ما يعانيه المعتقلون الفلسطينيون منذ عقود، من اعتقال تعسفي وإداري، وبأحكام مؤبدة لعدة قرون، وإهمال طبي وغذائي، واعتداءات جنسية، وتعذيب للصغار والكبار والنساء والأطفال، ولكن لماذا بهذا التوقيت فقط تحركت هذه المحكمة العسكرية للتحقيق مع الجنود التسعة، وهل فعلاً كانت تريد محاكمتهم أم إنها تريد توجيه الإدانة لهم وعدم إخضاعهم للمحاسبة كما في تجارب كثيرة حصلت في السابق؟ في الحقيقة ما يحصل داخل المعتقلات الإسرائيلية من انتهاكات وتعذيب وقتل وغيرها من الحالات والظواهر، هي جزء من سياسة منظمة وممنهجة تتبناها الحكومات الإسرائيلية، ولاسيما حكومة نتنياهو الحالية، وهناك العديد من الأدلة التي يمكن ذكرها هنا تؤكد ذلك، أبرزها:
– منذ تعيين إيتمار بن غفير وزيراً للأمن في إسرائيل، أعلن عن تبنيه إجراءات جديدة للتضييق على المعتقلين داخل السجون الإسرائيلية، مثل حرمانهم من الزيارات ولقاء المحامين، وتقليص مخصصاتهم من الطعام، والإهمال الطبي المقصود والمتعمد، واقتراح قتلهم في السجون من خلال إطلاق النار عليهم لمعالجة مشكلة اكتظاظ السجون، كما أن معظم الجنود الذين تم اعتقالهم، هم جنود احتياط يتبعون للفرقة 100 المكلفة بإدارة السجن، وهي من الفرق التي سعى بن غفير لإنشائها ضمن التنظيمات الموالية له ولليمين المتطرف.
– مشاركة بعض أعضاء الكنيست في اقتحام محيط المحكمة العسكرية والقاعدة العسكرية التي تضم معتقل سدي تيمان، وصدامهم مع الشرطة العسكرية التي كلفت باستجلاب الجنود المتهمين، وترديدهم هتافات تدعو للدفاع عما ارتكبه هؤلاء الجنود ودعوتهم لقتل المعتقلين الفلسطينيين كما جاء على لسان وزير التراث عميحاي إلياهو الذي شوهد وهو يهتف «الموت للإرهابيين»، أما بن غفير فقد وصف الجنود بـ«الأبطال» وإن قيام الشرطة العسكرية، وهو الجهاز الذي يتبع له، باعتقالهم هو أمر مخزٍ.
– رغم ما تم نشره وتقديمه من أدلة ولاسيما من قبل منظمة «هيومن رايتس واتش» نقلاً عن شهادات معتقلين داخل السجن سابقاً، وإعلان المحكمة العسكرية الإسرائيلية التحقيق في بعض الانتهاكات التي ارتكبها الجنود الإسرائيليين بعد عملية طوفان الأقصى، إلا أن الكنيست الإسرائيلي عاد وصدق السبت الفائت على تمديد العمل بقانون المقاتلين غير الشرعيين حتى يوم 30 تشرين الثاني 2024.
– كل التصريحات التي نددت بحالة الاحتجاجات والاقتحامات للمعتقل أو محيط المحكمة، والتي صدرت عن ساسة وأمنيين وعسكريين إسرائيليين، لم تكن نتيجة رغبتهم في محاسبة الجنود على الجرائم التي ارتكبوها، بل كانت شكلاً من أشكال الصراع الحاصل اليوم داخل إسرائيل، بين إرادتين، الإرادة الأولى هي التي تمثلها المعارضة وأنصارها في الحفاظ على طبيعة النظام السياسي القائم بما في ذلك دور الجيش في صنع القرار داخل إسرائيل، والإرادة الثانية المتمثلة في توجه اليمين المتطرف بفرض رؤيته بتغيير طبيعة هذا النظام وفق رؤيته وأيديولوجيته، بما في ذلك تقليص دور المؤسسات الإسرائيلية وفي مقدمتها القضاء والجيش للتحكم بمفاصل القرار والسلطة، وهو ما يفسر تصريح زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد، بالقول: «إننا اليوم لسنا على حافة الهاوية، بل نحن في الهاوية»، مشيراً إلى أن ما يجري يمثل خطراً وجودياً على إسرائيل، وإنه تم اليوم تجاوز جميع الخطوط الحمر، وتصريح رئيس حزب العمل الإسرائيلي أن على الشرطة التدخل فهي ليست شرطة حزب فاشي، على رأسها وزير يدعم الانقلاب على القانون.
– من بين بعض القضايا المثارة داخل المحكمة العسكرية هو اتهام جندي إسرائيلي وثقته الكاميرات بأنه يقوم بتفجير خزان مياه في قطاع غزة، إلا أن هذا الفعل في الحقيقة قد لا يكون نابعاً من الجندي ذاته، بل قد يكون امتثالاً لتصريح وزير الدفاع غالانت الذي أعلن فيه منذ بداية العدوان على غزة، عن قطع المياه والكهرباء والأغذية عن أهالي القطاع، وهذا ينطبق على باقي الجرائم المرتكبة.
في الواقع أن إثارة المحكمة العسكرية الإسرائيلية لفتح تحقيقات جنائية مع جنود في 48 حالة موت لفلسطينيين، معظمهم أسرى اعتُقلوا من غزة وتوفي 36 منهم في معسكر «سدي تيمان»، ليست سوى مناورة سياسية قانونية، هدفها الضغط على محكمة الجنايات الدولية لعدم إصدار مذكرات توقيف بحق عدد من القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية بمن فيهم رئيس الحكومة ووزر الدفاع ورئيس هيئة الأركان، وإن ما كانت ترمي إليه إسرائيل من إجراء هذه المحاكمة الصورية ليس سوى محاولة لإقناع العالم بأنها دولة ديمقراطية، من خلال تقديم نفسها على أنه تقوم بالمحاسبة دون أن يكون هناك أي داع لمحاكم دولية، وهو ما يمنح حلفاءها وخاصة واشنطن الذريعة للضغط على المحكمة الدولية لعدم إصدار مذكرات الملاحقة والاعتقال.
كاتب سوري