من دفتر الوطن

بين التكريم والتكريه

| حسن م. يوسف

تفشت خلال العقود الماضية في مختلف أوساط مجتمعنا ظاهرة التكريم الخلبي حيث يقدم للمحتفى به (درع) ما، والدروع مستويات وأنواع، فالدروع التي تقدم للمسؤولين غالباً ما تكون فخمة ضخمة حسنة التصميم داخل صناديق جميلة معتنى بصنعها، أما الدروع التي تقدم للشعراء والقصاصين وللفنانين التشكيليين وللمثقفين من الدرجتين الثانية والثالثة فقد تكون قطعة من الزنكوغراف أو التنك كتب عليها اسم المحتفى به وموضوعة داخل علبة رخيصة رديئة الصنع.

لكن بعض الجهابذة اكتشفوا طرقاً أرخص من دروع الزنكوغراف أو التنك، فالشاعر أو القصاص خامل الذكر الذي يرسل (إبداعاته) إلى الصحف دون أن تحظى خرائده الفريدة بأي اهتمام قد يلجأ لتأسيس اتحاد (عالمي) أو مجلس (كوني) لتقشير البطاطا وفصفصة لب الميال، أو ينشئ نادياً ثقافياً لتنجيد اللحف وترقيع المشاهير! كل رأسماله هو دبلوم أو شهادة تقدير وتميز مصممة على الكمبيوتر بواسطة برنامج الفوتوشوب. يبدأ الأمر بأن يقوم الشاعر أو القصاص خامل الذكر بتوزيع شهادات التقدير على الشخصيات المؤثرة في الصحف ووسائل الإعلام، كي يحظى إذا ما أرسل لهم إبداعاته لاحقاً بفرصة للنشر في صحفهم ومجلاتهم، وهكذا يشق طريقه في الحياة الثقافية وقد ينجح في فرض (إبداعاته) على من يريد وعلى من لا يريد!

لست أخفيكم أن هذا النوع من الخدع الإلكترونية قد انطلت عليَّ مرة واحدة لكنها مرت دون خسائر! وأنا اكتب عنها الآن لأنها تحولت إلى ظاهرة مقلقة، لأن بعض من يتلقون هذه (الدروع والأوسمة والجوائز والشهادات الخلبية) تطق عقولهم ويصدقون أنهم باتوا من أصحاب الإنجازات العظمى! وقد أرسل لي أحد هؤلاء مجموعة (نصوص) ضحلة ليس فيها أي موهبة، كما أنها مثقلة بالأخطاء الإملائية والقواعدية، ولما صارحته بأنه يحتاج للكثير من القراءة قبل ممارسة الكتابة، أضحكني حقاً عندما اتهمني بأنني أغار منه!

أصارحكم أنني قد حصلت خلال حياتي على كمية من الدروع تكفي لتسليح جيش صغير، والحقيقة أنها كلها كانت عديمة القيمة عدا الدرع الذي كرمتني به مطرانية الأرمن بحلب بعد عرض الجزء الأول من مسلسل (إخوة التراب)، فقد كان ذلك الدرع هو الوحيد الذي له قيمة مادية لأنه كان من الفضة، وعندما عضتني الحاجة بأنيابها الزرقاء خلال الحرب التي شنتها الفاشية العالمية وذيولها الإقليمية والمحلية على وطني الحبيب سورية بعت ذلك الدرع بمبلغ محترم وقاني من الاستدانة التي علمني أبي أنها همٌ في الليل وذلٌ في النهار.

في كتابه (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) يقول الُمحبِّي: «داسته أقدام النوب وأدركته حرفة الأدب»، وأنت تعلم أيها القارئ العزيز أن فعل (أدركه) كان يستخدم، أكثر ما يستخدم للحديث عن الموت أو المصيبة إذ يقال أدركه الموت أو أدركته مصيبة، والحق أن الأدباء في جل العصور يعيشون في ضيق وحاجة! لذا أقترح على من يريدون تكريم الأدباء من ناثرين أو شعراء ألا يقدموا لهم دروعاً بغض النظر عن قيمتها، بل أن يقدموا لهم مبالغ ماليه تعينهم على تحمل أعباء الحياة القاسية!

قبل سنوات اتصلت بي إحدى الجهات وأبلغتني عن وجود تكريم لأخي في الحبر والأحلام وليد معماري ولي ولما ذهبنا قدموا لنا ساعات رادو فظننت أننا قد قبرنا الفقر، وفي اليوم التالي توجهنا وليد وأنا لوكالة الساعات التي أهديت لنا كي نبيعها لها، فتبين أن الساعة تقليد، وأن من أراد تكريمنا قد كرم نفسه قبل أن يكرمنا فأهدانا «ساعات تقليد» وقبض الفرق الهائل بين الساعتين!

«الله غالب» كما يقول إخوتنا في ليبيا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن