اغتيالات بيروت وطهران بين رمزية المكان ورمزية الهدف.. لن تكون هناك حرب شاملة!
| فراس عزيز ديب
«التاريخ يعيد نفسهُ مرتين، مرة على شكلِ مأساة ومرة على شكلِ مهزلة»، مقولةٌ كنَّا نظن بأن قائلها يعني بالتاريخ بأنهُ المسافة الشاسعة المُمتدة بين حقبتين تشهد على سنيها فترات صعودٍ ونزول، تقدم وتراجع، انكسارات وانتصارات، لكن ولأنَّ شرقنا البائس اعتادَ كسرَ كل المقولات والنظريات، فإن التاريخ عندنا يكرِّر نفسهُ أكثر من مرة حتى ملَّت المأساة منا، من دون أن نفهم هل مازلنا في إطار المأساة أم المهزلة، فما الجديد؟
اغتيلَ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، صفحة وطويت، لن أخوضَ هنا بما لهذا الشخص وما عليهِ لا يعنيني، فلا مواقفهُ ضد سورية التي تماهت بالمُطلق مع موقفِ شيخ الفتنة يوسف القرضاوي، أو المواقف الإسرائيلية أدَّت لسقوطِ سورية والحمد لله، ولا تحوله إلى ساحاتِ النضال القَطَرية على طريقةِ «كبيرهم الذي علمهم الغدر» خالد مشعل حمتهُ من أن يكون مادةً لتصفيةِ الحسابات، وكنا هنا في هذه الزاوية حذرنا أكثر من مرة بأن هناك من يدفعه لرفع سقف التصريحات منذ بدءِ العدوان الوحشي على غزة عقب عملية «طوفان الأقصى» لإظهار المقاومة بمظهر المنهزم حالَ حدوث أي تراجع، وقلنا بأن التقارير التي تتحدث عن تسريبات قطرية بالتخلص من قادة الحركة لانتفاء الحاجة إليهم المقيمين لديها ليست مجردَ تكهنات، سندع كل ذلك خلفنا وما سأتحدث عنهُ هنا هو رمزية الاغتيال، فكيف ذلك؟
لا تتم عملية الاغتيال من دون هدف، أهداف الاغتيال غالباً ما تكون مرتبطة برمزيةٍ دائماً ما تكون مزدوجة، أي مرتبطة برمزية الشخص ذات نفسه ومرتبطة كذلك الأمر بالمكان الذي تم فيهِ الاغتيال، أحياناً قد تطغى رمزية الشخص على رمزية المكان وهذا ما رأيناهُ جليَّاً في عمليةِ اغتيال قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني في العراق، حيث لم يحمل مكان الاغتيال أي رمزية، ليسَ تقليلاً من قيمة العراق، معاذ الله، ولكن لأن المكان هنا هو مجرد حيز جغرافي تواجد فيهِ الهدف، علمَ بهِ العملاء بمن فيهم أولئكَ الإيرانيون الذين أرادوا التخلصَ من سليماني، على الجانب الآخر فإن رمزيةَ المكان قد تطغى على رمزية الشخص، وهذا ما حدثَ فعلياً في عملية اغتيال إسماعيل هنية، فرمزية المكان أي العاصمة طهران، كانت مستهدفة أكثر من الشخص ذات نفسه، ليسَ تقليلاً من أهميتهِ، نظراً لدوره الحالي كمفاوضٍ يمكن أن يلبي طموحات مستضيفيه، تحديداً بالضغط على الجناح العسكري لقبول صفقة تبادل الأسرى التي تريدها إسرائيل والولايات المتحدة لسحب آخر أوراق القوة بيد المقاومة الفلسطينية، لكن ألم يكن من السهل استهدافه في قطر؟ ألم يكن من السهل اغتياله بالسم مثلاً؟!
بواقعيةٍ تامة لو حدث ذلكَ فعلياً لما أخذَ الاغتيال أي ضجةٍ، هذا إن لم تخرج تقارير تتحدث عن موته بالكورونا مثلاً، وكان الأمر انتهى بجنازةٍ بسيطة تشبه تلك التي أُقيمت لهُ فورَ وصول الجثمان إلى الدوحة، ليُصلى عليهِ في جامع مؤسس الوهابية التي أرادت قطر منذ افتتاحهِ مطلعَ ربيع الدم العربي إثبات أنها الوريث الشرعي للوهابية في الخليج العربي بظلِّ تنافسها مع المملكة العربية السعودية يومها، ووريَ الثرى بالقرب من أكبر القواعد الأميركية في الشرق الأوسط وانتهى الأمر، لكن رمزية المكان الذي تم استهداف هنية فيه هي ما جعلَ للحدث قيمة ومعنى، من الوضوح بطريقةِ الاستهداف ونقل الخبر، مروراً بالجنازةِ المهيبة التي خرجت لهُ ورمزية أن يُصلي عليه علي خامنئي وانتهاءً باعتبار الإيرانيين أنفسهم كمستهدفين، وهو الأهم!
لكن وسط كل هذه الضوضاء، مازال الصمت الإسرائيلي عن تبني الحدث ملفتاً، بعكس ما جرى من استهدافات لقادة المقاومة اللبنانية كان آخرها ما حدث من اغتيال للقيادي فؤاد شكر، حيث كان التبني الإسرائيلي سريعاً وواضحاً، بل وأكاد أجزم بأنهم بملف هنية سيكونون أكثر دهاءً من التورط بتبني الحدث، لأن ترك الأمر مفتوحاً يحقق لهم الكثير من الفتنة المطلوبة، كالثرثرة عن دور المنافسين المباشرين له في الحركة بتصفيتهِ أو لنقل الصراع بين الجناحين العسكري والسياسي، ومنها مثلاً وهو ما قد نراه قريباً عبر «مقالات مسبقة الدفع» تتحدث عن تورط إيران بالعملية.
واقعياً، وفي الحديث عن الهدف الحقيقي من هذا الاغتيال، تبدو أمامنا الكثير من الفرضيات، بعضها حكماً لا تستحق الوقوف عندها لكن بعضها الآخر لا يمكن أن تتضح لنا صوابيتها من عدمهِ إلا بانتظار المزيد من الوقت لتحديد مآلات ما يجري، فالحديث عن مستقبل الحركة وتحولها إلى حركة وطنية خارج سياق الإسلام السياسي لكي يكون لها دور في مستقبل السلطة، مرتبط تماماً بالحديث عن مستقبلِ قطاع غزة بعد اليوم التالي لانتهاء العدوان الإسرائيلي، أصبح معها وجود هنية هو عبئاً، رأت فيهِ قطر والولايات المتحدة تحوله لمجردِ مسؤول هامشي لا يمكن أبداً الاعتماد عليه بالضغط على الجناح العسكري، هنا نصل إلى السؤال الأهم: هل سيؤدي ما جرى في بيروت وطهران إلى حربٍ شاملة؟
في الوقتِ الذي ترفع فيهِ الكثير من الصحفِ الأميركية رايات الحرب القادمة إلى الشرقِ الأوسط، تبدو الصحف الأوروبية بمجملها وكأنَّها في إجازةٍ قسرية لتغطيةِ أحداث أولمبياد باريس بعيداً عن أي أولمبيادٍ آخر، سواء أَكان سياسياً أم عسكرياً، فالصحف الأميركية تبدو فعلياً في توافقٍ تام مع الخطاب الرسمي الأميركي الذي كان وما يزال يحذِّر من أي انتهاكٍ للخطوطِ الحمراء في حالِ مهاجمة إسرائيل، ما خلا بعض التصريحات الخلبية المنسوبة للرئيس جو بايدن والتي اعتدنا على سماعِها منذُ السابع من تشرين الأول الماضي والتي بمجملِها يحذر فيها رئيس حكومة كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو من عواقب ما تقوم بهِ إسرائيل، لكنها تبدو كتصريحاتٍ متفق عليها لا أكثر، حيث أكد البنتاغون في بيانٍ له بأن وزير الدفاع لويد أوستن أمرَ بمراجعةِ الموقف العسكري الأميركي في الشرق الأوسط بهدفِ تحسين حماية القوات الأميركية هناك، وزيادة الدعم للدفاع عن إسرائيل والرد على شتّى الحالات الطارئة، هذا التعاطي يُعيد إلينا تأكيدَ المؤكد بأن فكرة الحرب مع إسرائيل والتي يستغلها بعض الأمعات في هذا الشرق للسخرية من دول المنطقة بأنهم لا يستطيعون هزيمة دولة مجهرية كإسرائيل، هي فكرة منقوصة لأن الحرب في الحقيقة هي مع الولايات المتحدة.
أما الأوروبيون، فما زالوا ضمنَ الخط التصاعدي لهم بالتقاعد حتى عن أدنى الأدوار المنوطة بهم كدولٍ عظمى سابقة، لكن هل يمنع هذا الكلام الأميركي فعلياً قيام حربٍ شاملة؟!
دعونا نقول الحقائق كما هي، فما حدث في طهران هو فعلياً اعتداء مباشر على إيران قبل أن يكون اغتيالاً لضيفٍ لها، وهو فعلياً يحتاج إلى ردٍّ واضح وصريح من دون رتوش وشعارات لا معنى لها، أما ما حدث في لبنان فهو سياق مختلف تماماً لأن المقاومة هناك عندما تعد بالرد فهي سترد، لكن الرد حكماً لن يخرج عن سياق الخطوط الحمراء الحالية، لأن ما يريده بنيامين نتنياهو حالياً هو رد بمثابةِ مفتاح لاجتياح لبنان من جديد وهو حكماً ما يبحث عنه، فهل المقاومة جاهزة لمنحهِ هذه الفرصة؟ الجواب حكماً ليس عندي!
أما في الرد الإيراني فسيتجه ليكون رداً متفقاً عليه، كما حدث عقبَ الهجوم على السفارة الإيرانية في دمشق، رد يُنزل الجميع عن الشجرة، ويجنب المنطقة حرباً لا أحد يريدها لا إسرائيل ولا إيران، ولو أرادوها كما يهدد الطرفان منذ وقتٍ طويل لاندلعت، لأن كل مقومات حدوثها متوافرة، لكن حذار هنا، فإن استسهال الكيان لهكذا نوع من الهجمات ومع ضمان الردود «المتفق عليها»، ليس مؤشراً جيداً، لأننا سنصبح فعلياً كما قلنا في مقدمةِ هذه الزاوية التي سنستقي منها لنقول: لا تكرروا التاريخ.. كي لا تتحول المأساة إلى مهزلة.
كاتب سوري مقيم في فرنسا