ترامب وصدمة القارة العجوز المشتتة سياسياً واقتصادياً
| د. قحطان السيوفي
بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس الأميركي السابق والمرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب واختياره للسيناتور جي. دي فانس نائباً له، بات واضحاً أن على أوروبا الاستعداد للتعايش مع سياسية «أميركا أولاً»، في حال فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
إن احتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض يثير قلق أوروبا بشأن مستقبل العلاقة عبر الأطلسي وأمن القارة العجوز، و«أميركا أولاً» هي عقيدة ترامب في السياسة الخارجية، وروج لها واعتمدها خلال فترة رئاسته للولايات المتحدة الأميركية بين عامي 2017 و2021.
هذه العقيدة تعتمد مبدأ إعطاء الأولوية للمصالح الأميركية في الشؤون الدولية، حتى وإن تعارض ذلك مع مبادئ التعاون المتعدد الأطراف الذي تتبعه الدبلوماسية الأميركية تقليدياً.
وفي حال إعادة انتخاب ترامب رئيساً، ستواجه أوروبا صدمة عابرة للأطلسي مع تبني سياسات أكثر عدوانية من ذي قبل والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن لهذه السياسة أن تؤثر في العلاقة عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوروبا؟
سؤال يشغل بال القادة الأوروبيين في فترة يواجه فيها العالم أزمات دولية متعددة الأوجه، فالقارة العجوز واجهت سلسلة من الأزمات في العقد الماضي، وتتوق لتكون قوة عظمى وليست تابعة للولايات المتحدة، كما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذات مرة، أو الإيمان بالتضامن الغربي وصولاً إلى التفاؤل بأن مزيجاً من الاسترضاء والتدابير المضادة سيكفي للتعامل مع ترامب، أو كما يقال: تعاملنا مع ترامب مرة، ويمكننا فعلها مجدداً.
أوروبا، التي أصبحت أكثر اتحاداً منذ ظهور ترامب لأول مرة على الساحة العالمية، مشتتة سياسياً، ففرنسا مثلاً ليس لديها رئيس وزراء بعد انتخابات فوضوية، بينما يفشل الائتلاف المنقسم في ألمانيا في القيادة، وعلى الصعيد الاقتصادي، يعد نمو منطقة اليورو ضعيفاً، وبينما أصبح تكتل القارة العجوز رائداً في الإجراءات البيروقراطية والتنظيمية لحماية المستهلكين لديه، يفتقر إلى الإمكانات التي قد تمكنه من منافسة أكبر شركات التكنولوجيا الأميركية.
القارة العجوز أكثر عرضة لخطر تفاقم الانقسامات العميقة بين برلين وباريس، بالمقابل يعد اليورو الحصن الأخير المتبقي لحماية أوروبا من التحديات الاقتصادية، وربما يكون الوقت حان للنظر إلى فرانكفورت وأدوات البنك المركزي الأوروبي، وقد لخص ترامب خطته الاقتصادية بوضوح مريب، حيث يعتمد أسعار فائدة منخفضة، وضرائب منخفضة، وتعريفات جمركية أعلى، وسيفرض على البنك المركزي الأوروبي أن يكون مستعداً للنظر في مزيد من التخفيضات في تكاليف الاقتراض لدعم اقتصاده وصادراته، حتى في ظل أخطار ارتفاع تكلفة واردات مثل الطاقة.
وفي مجال الأمن القومي، كان خفض انتشار القوات الأميركية في الخارج والتركيز على تعزيز الدفاع الوطني جزءاً أساسيا من إستراتيجية ترامب الأمنية، إضافة إلى رفض الاتفاقيات الدولية التي كان يُنظر إليها على أنها تحد من استقلالية واشنطن فكيف سيكون موقف ترامب تجاه الحلفاء الأوروبيين سواء على المستوى الاقتصادي أم الأمني والعسكري داخل حلف الناتو أو بشأن حرب أوكرانيا؟
بالنسبة لأوكرانيا تصريحات أدلى بها المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس ج. د. فانس، أعرب فيها عن معارضته لمزيد من الدعم الأميركي لأوكرانيا، وتدل كل المؤشرات على أن إعادة انتخاب ترامب من شأنها الضغط على أوكرانيا لحملها على الاستسلام الجزئي، وإلا فإنها ستحرم من المساعدات العسكرية.
قال فانس: لا يهمني حقاً ما يحدث لأوكرانيا، ودعا كييف إلى وقف العمليات العسكرية وإجراء مفاوضات فورية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
في 12 تموز 2024 حذر رئيس الوزراء المجري فيكتور أوروبان الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بعد رحلاته المكوكية إلى بكين وموسكو وواشنطن، معلناً أن إعادة انتخاب ترامب «المحتملة» من شأنها أن تُغير الديناميكية المالية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بدعم أوكرانيا، ومن المرجح أن يتحمل الاتحاد الأوروبي العبء الأكبر في المستقبل، وانتقد رئيس الوزراء المجري الإستراتيجية الأوروبية بشأن أوكرانيا واصفاً إياها بأنها مجرد نسخة من السياسة الأميركية، واقترح أوروبان أن يغتنم الاتحاد الأوروبي الفرصة الحالية لإعادة النظر في نهجه.
إذا عاد ترامب للبيت الأبيض، فقد تواجه أوروبا سيناريوهات مختلفة فيما يتعلق بالعلاقات الأطلسية، منها تفاقم التوترات الاقتصادية، وقد يواصل ترامب سياساته التجارية الحمائية، ما قد يؤدي إلى مزيد من الصراعات مع الاتحاد الأوروبي، وعلى المستوى العسكري قد يواصل ترامب الضغط على الشركاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي لزيادة إنفاقهم الدفاعي، وهناك احتمال أن تقوم الولايات المتحدة بتخفيض وجودها العسكري في أوروبا بشكل أكبر، ما قد يؤدي إلى زيادة الضغوط الأمنية على دول الاتحاد الأوروبي.
قد تجد الدول الأوروبية نفسها مضطرة إلى تشكيل سياستها الخارجية بشكل أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة والبحث عن تحالفات بديلة، ومستقبل أوروبا بات أكثر غموضا اليوم، ويحتاج إلى مزيد من التكامل والسياسات المشتركة.
يرى المراقبون أن اختيار رئيس الوزراء المجري القومي فيكتور أوروبان شعار «لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى» مع استلامه للرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي هو تأكيد للمخاوف الأوروبية، خصوصاً أن هذا الشعار يشبه ذلك الذي اختاره ترامب خلال توليه منصبه.
ستكون العلاقات الاقتصادية الأوروبية أكثر تعقيدا مع ترامب لاسيما وأن العجز التجاري الأميركي مع الاتحاد الأوروبي لا يزال مرتفعاً، وهو ما لمح إليه دبلوماسي أوروبي في تعليقه لصحيفة «لوموند» الفرنسية بأن «الأمر سيكون أشد شراسة مع ترامب».
وبجانب المخاطر التجارية والاقتصادية، يواجه الاتحاد الأوروبي معضلة فيما يتعلق بإمدادات الغاز، منذ تعليق واردات الطاقة من روسيا، ورداً على الحرب في أوكرانيا صرح رئيس وزراء بلجيكا ألكسندر دي كرو، بأنه «في حال عودة الرئيس الأميركي السابق إلى السلطة، فإن أوروبا ستجد نفسها وحدها، أكثر من أي وقت مضى».
إن شعار ترامب «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» شكل حجر الزاوية في سياسة التباعد مع القارة العجوز، ويمكن أن تصور صدمة القارة العجوز المشتتة سياسياً واقتصادياً وكأنها قارب شراعي يستعد لهبوب العاصفة.
وزير وسفير سوري سابق