دلالات ارتفاع مناسيب القلق الأميركي
| عبد المنعم علي عيسى
من اللافت حقاً هو أن السلوك السياسي، بشتى تشعباته، الذي تمارسه واشنطن منذ أواخر الشهر المنصرم، يشي بكمّ من القلق ذي طابع تصاعدي، صحيح أنها، أي واشنطن، كانت ولا تزال تعلن عن التزامها أمن إسرائيل كأولوية لا تسبقها أي أولوية في منطقة الشرق الأوسط، ثم كانت ولا تزال، ترى أن الدفاع عن إسرائيل سيكون حاضراً على الدوام حتى ولو اقتضى الأمر الزج بالجيش الأميركي كله، وتلك حقيقة لربما لم تكن غائبة عن الأذهان، لكنها باتت صارخة الآن بدرجة تبدو لافتة، لكن الصحيح أيضاً هو أن القلق الذي راحت تبديه دوائر القرار الأميركي، والذي لم يكن بأقل كثيراً من نظيره الذي راحت تبديه نظائر هذه الأخيرة الإسرائيلية، بات مؤشراً أكيداً إلى أن جزءاً وازناً منه يتأتى من الداخل الإسرائيلي وتراصفاته التي راحت تتخذ أشكالاً عديدة أبرزها طغيان «نزعتي الثأر والحقد» بدرجة باتت تشكل خطراً حقيقياً على ذلك الداخل الذي يواجه أزمة لم يسبق له أن واجهها، ومن المتفق عليه، عند منظري الصراعات ومديريها، أن «الحقد هو أكبر موجه سيئ للساسة».
نشر موقع «أكسيوس» الأميركي يوم الخميس المنصرم تقريراً يقول إن المعلومات الواردة فيه جاءت نقلاً عن ثلاثة مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى، والمعلومات إياها تؤكد أن «الرد الإيراني واقع لا محالة» حيث إن «مجمع الاستخبارات الأميركية» كان قد تلقى بدءاً من يوم الأربعاء الماضي «مؤشرات دالة على حتمية الرد»، قبيل أن يضيف أن «توقيته يتوقف فقط على الفترة التي سيحتاجها التنسيق بين طهران وحلفائها»، حيث تشير التقديرات إلى أن «الرد سيكون من جبهات عدة، وفي آن واحد»، وفي إطار المسعى الأميركي لاحتواء التصعيد يقول التقرير إن «واشنطن باشرت الاستعدادات التي سبق لها أن أجريت قبيل هجوم 13-14 نيسان الماضي، لكن بدرجة أكبر هذه المرة»، لكن واشنطن، «تواجه صعوبات تجاه حشد التحالف الإقليمي الدولي السابق نفسه الذي استطاع التخفيف من الآثار الناجمة عن هذا الهجوم الأخير».
تشير حالة التأهب العسكرية الأميركية إلى ارتفاع مناسيب القلق لجهة إمكان انفلات «عقال» النار وخروجها عن السيطرة الأمر الذي يمكن له أن يؤدي إلى حالات «غير محسوبة»، وواشنطن كثيراً ما تقلقها التطورات التي يمكن لها أن تؤدي إلى خلط كبير للأوراق ونشوء معادلات بمجاهيل عديدة سوف تحتاج إلى برامج جديدة لإيجاد حلول لها، ويزيد من تلك المخاوف أن الوقت لا يبدو مناسباً لاستحداث مثل برامج كهذه، ولذا فقد تزامنت حالة التأهب العسكرية آنفة الذكر مع مساع دبلوماسية حثيثة راحت تجهد، في اتجاهات شتى، بغرض استكشاف «سقف التصعيد» المقبل، وإلى أين سوف يصل؟ وعليه، وفي السياق ذاته، ظلت المساعي تجهد باتجاه محاولة وضع ضوابط للتصعيد، الأمر الذي يبين من خلال تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن الذي قال يوم الجمعة المنصرم: «لدينا أساس لوقف إطلاق النار في غزة»، ثم تلاه المتحدث باسم البيت الأبيض، جون كيربي، فقال وفقاً لما نقلت عنه شبكة «سي إن إن»: إن مسؤولي الولايات المتحدة «يواصلون المحادثات مع نظرائهم، بمن فيهم الإسرائيليون، للتوصل إلى وقف إطلاق النار لمدة ستة أسابيع»، وأضاف: «ما زلنا نعتقد أن وقف إطلاق النار أمر ممكن، وأن التفاوض ممكن أيضاً حتى بعد مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية».
لا تتضح المعطيات التي قادت بالرئيس بايدن، والمتحدث باسمه، لإطلاق تصريحات كهذه، إذ لطالما كان اغتيال هنية قد أرخى بظلاله الثقيلة على مفاوضات وقف إطلاق النار التي لم تكن بحال جيدة على أي حال، ولا يعرف بالضبط علام بنت واشنطن تقديرات كهذه، فجميع المؤشرات، أقله وفق المعلن، يشير إلى أن الطرق باتت مسدودة أمام «محطات التفاوض» بسبب تصعيد تموز الذي استولد استعصاء من الصعب حلحلته، ما لم يقل اضطرام النار كلمته التي قد تنجح في فتح تلك الطرق أو بعضها، وفي مطلق الأحوال بدا الموقف الأميركي أقرب إلى موقف «أم العروس» منه إلى موقف الدولة العظمى التي من مهامها حفظ الأمن والسلم الدوليين، أقله أن القيام بتلك المهمة يساعد في الحفاظ على حال «الستاتيكو» السائد في منظومة المجتمع الدولي الذي راح يظهر تململاً واضحاً تجاه تلك المنظومة.
كاتب سوري