«المهارات الخضراء» والوظائف المستقبلية … يدرك معظم الطلاب في جميع أنحاء العالم أن الوظائف الخضراء هي ظاهرة مستدامة
| أ.د. وائل معــلا
أطلقت منظمة الطلاب الدولية من أجل الاستدامة Students Organising for Sustainability International نداءً لحثَّ الطلاب والخريجين الشباب وصناع السياسات في جميع أنحاء العالم على تبني فهم «الوظائف الخضراء» التي تتجاوز في مفهومها قطاعات التصنيع والبناء والطاقة المتجددة لتشمل جميع الأدوار التي تعزز الاستدامة، والحفاظ على البيئة، والاستجابة لحالات الطوارئ المناخية والبيئية.
جرى ذلك مؤخراً عند إطلاق تقرير «المهارات الخضراء والوظائف الخضراء» خلال احتفالية نظمتها «مبادرة استدامة التعليم العالي» Higher Education Sustainability Initiative، وهي شراكة بين العديد من كيانات الأمم المتحدة ومجتمع التعليم العالي الدولي.
نحو الاستدامة الخضراء
وكان استطلاع أجري عبر الإنترنت شمل 1108 من طلاب الجامعات والخريجين الجدد (تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً ) من 56 دولة وخمس قارات، قد خلص إلى أن جميع الوظائف تقريباً يمكن توجيهها نحو الاستدامة والمهارات الخضراء، على الرغم من أنه كانت هناك بعض الاختلافات في كيفية رؤية المشاركين في الاستطلاع من مختلف القارات إلى «الوظائف الخضراء» و«المهارات الخضراء».
فقد رأى المشاركون الأفارقة أن «الوظائف الخضراء» تتمحور حول الأدوار التي تعزز الاستدامة، والتي تهدف إلى الحفاظ على البيئة والاستجابة لتغير المناخ، وأنها في المقام الأول تقع في مجالات الطاقة والزراعة والتصنيع والتعدين. ورأوا أنَّ «المهارات الخضراء» هي تلك التي تساعد على منع التدمير البيئي، وتعزيز الاستدامة، وهي صديقة للنظم البيئية وتعزز الحفاظ على البيئة. كما ربطوا «المهارات الخضراء» بالمعرفة والخبرة التقنية، والقدرات البشرية التي تمكن من استخدام التقنيات الخضراء.
الوظائف الخضراء والتخطيط
أمّا نظراؤهم الآسيويون فقد كانوا أكثر تحديداً، إذ اعتبروا أن «الوظائف الخضراء» تقع في مجال التخطيط الحضريّ، ومشاريع الطاقة المتجددة، وريادة الأعمال الاجتماعية، والتعليم، وعلوم البحار، والغابات، والطب، والهندسة البيئية. أما «المهارات الخضراء» بالنسبة لهم فهي المعرفة، والقدرات، والقيم، اللازمة لدعم مجتمع مستدام يتسم بالكفاءة في استخدام الموارد الطبيعية.
من جانبهم، وصف المشاركون من أميركا الجنوبية «المهارات الخضراء» بأنها مهارات «صلبة» و«ناعمة» تركز على فهم الديناميات البيئية المختلفة وعلى إيجاد الحلول. وبشكل عام يتمتع شباب التعليم العالي في أميركا الجنوبية بفهم عميق للتحديات الناشئة عن الصراعات البيئية والظلم injustices، ويرغبون في رؤية توازن بين المهارات الصلبة والناعمة في مناهج «الوظائف الخضراء» والتركيز بشكل أكبر على الجوانب الاجتماعية للاستدامة وعلى العدالة الاجتماعية.
وكان الرأي السائد لدى طلاب التعليم العالي أن «الوظائف الخضراء» يجب أن تتجاوز مجرد القضاء على انبعاث غازات الدفيئة والنفايات والتلوث، وينبغي لها أيضاً أن تشجع على استعادة النظم البيئية المتدهورة، وتحسين صحة الإنسان، ودعم التكيف مع تأثيرات التغير المناخي. وبالنسبة لمعظم الطلاب، تعد «المهارات الخضراء» مهارات المستقبل، وهي ضرورية لتكييف العمليات والمعرفة والقدرات والقيم والسلوكيات اللازمة للعيش في مجتمع مستدام يتسم بالكفاءة في استخدام الموارد الطبيعية.
الانتقال إلى الطاقة النظيفة
وفي دراسة أجريت مؤخراً بغية فهم مواقف طلاب الجامعات بشكل كامل فيما يتعلق بالاستدامة و«الوظائف الخضراء» و«المهارات الخضراء»، جرى استطلاع آراء قادة الطلاب من مختلف مجموعات المناصرة ومجموعات الضغط للاستماع إلى أفكارهم حول التحول الأخضر في التعليم العالي وأسواق العمل. وأجمع العديد منهم على أنه يجب على الجامعات أن تفعل المزيد لتدريب وتعليم الطلاب من أجل «الوظائف الخضراء». وأشار البعض إلى أنه على حين ينبغي لقطاعي التعليم والتدريب إعداد الشباب للانتقال إلى الطاقة النظيفة والعلاقة المتطورة بين العمل والاستدامة، فإن العديد من الجامعات لم تقم بمراجعة مناهجها لتشمل مساقات تعليمية حول الاستدامة و«المهارات الخضراء» و«الوظائف الخضراء.»
وبشكل عام، يدرك معظم الطلاب في جميع أنحاء العالم أن «الوظائف الخضراء» هي ظاهرة مستدامة وليست مجرد توجّه آني، وأنها ستصبح جزءاً دائماً وأساسياً من الاقتصاد العالمي مع التقدم التقاني والتحول المجتمعي نحو ازدياد الوعي البيئي، وأنه يمكن إعادة توجيه جميع الوظائف المتاحة تقريباً لتصبح وظائف خضراء، وأنه ينبغي اعتبار المعرفة بالاستدامة ضرورية لكل توصيف وظيفي.
الفجوة بين المناهج والمهارات
غير أن الجامعات لا تقوم حاليا بما يكفي لتدريب وتعليم الطلاب على الوظائف الخضراء. فعلى حين بدأ الكثيرون في تقديم وحدات أو برامج تعليمية جديدة تتمحور حول الاستدامة، لا تزال هناك فجوة كبيرة بين المناهج الدراسية المقدمة والمهارات العملية التي يحتاجها سوق العمل. ومن المتوقع أن تكون «الوظائف الخضراء» جزءاً أساسياً ومتنامياً من القوى العاملة في المستقبل. فمع زيادة التشريعات وطلب المستهلكين على الاستدامة، من المتوقع أن تزداد أهمية هذه الوظائف.
غير أنه على الرغم من هذا التفاؤل، أعرب العديد من الطلاب أيضاً عن مخاوفهم بشأن جودة التأهيل والأجور المدفوعة للوظائف الخضراء. وأشار العديد منهم إلى وجود اختلافات كبيرة في التعويضات بناءً على قطاع العمل والموقع الجغرافي ومستوى الخبرة والدعم الحكومي. فعلى سبيل المثال، أشار البعض إلى أنه على حين أن العديد من الوظائف الخضراء في قطاعات الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة توفر رواتب تنافسية، فإن الوظائف في الزراعة المستدامة، تؤمن أجوراً أقل.
وفي كثير من الأحيان لا تستثمر العديد من الشركات ما يكفي في الامتثال للاستدامة والتحول الأخضر، الأمر الذي لا يؤدي فقط إلى ضعف الأجور ولكن أيضاً إلى زيادة العبء على مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين يعملون في مجال الاستدامة. وبشكل عام، تعاني الوظائف الخضراء من نقص التمويل وضآلة تقدير قيمتها مقارنة بالأدوار التقليدية للشركات.
الاستدامة على الصعيد العربي والوطني
على الصعيد العربي، حثَّ «المؤتمر العربي الخامس للتعليم العالي والتنمية المستدامة» الذي عقد تحت شعار «دور الجامعات في تحقيق أهداف التنمية المستدامة» في مصر، في أيلول من عام 2023، الجامعات العربية في الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية على دمج أهداف الأمم المتحدة العالمية للتنمية المستدامة SDGs، في برامجها التعليمية والبحثية بما في ذلك الخطط لتحقيقها، وذلك بغية إنتاج خريجين قادرين على تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. لكن لا يوجد حتى الآن أي معلومات حول مدى استجابة جامعات الدول العربية لهذه الدعوة.
وقد أشار مدير عام المنظمة العربية للتنمية المستدامة، إلى أن الهدف من المؤتمر كان توفير منصة عربية يمكن من خلالها تسليط الضوء على دور الجامعات في تحقيق أهداف التنمية المستدامة بما في ذلك تحسين نوعية الحياة، والقضاء على الفقر، وتعزيز التعلم، وغيرها من الأهداف، وأن الجامعات على وجه الخصوص تلعب دوراً حيوياً في نقل المعرفة والعلوم وتقديم المبادرات والحلول.
فعلى الرغم من أن معظم الدول العربية نجحت في تحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة، الذي يدعو إلى تكافؤ فرص جميع النساء والرجال في الحصول على التعليم التقني والمهني والتعليم العالي الجيد وبأسعار معقولة، بما في ذلك التعليم الجامعي، إلا أنّ المنطقة العربية ككل غير متقدمة في مجال تحقيق جميع أهداف التنمية المستدامة، وهناك حاجة إلى بذل جهود كبيرة وتعاون في جميع أنحاء المنطقة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ضمن الإطار الزمني المتبقي خاصة بالنسبة للدول العربية المتأثرة بالنزاعات والحروب والتي تواجه أعلى مخاطر التخلف عن الركب.
وعلى الصعيد الوطني، وعلى الرغم من أنَّ العديد من البرامج التعليمة التي أحدثت في جامعاتنا تتوافق مع الأهداف العالمية للتنمية المستدامة، إلا أننا ما زلنا نفتقر إلى استراتيجية وطنية لدمج مفاهيم التنمية المستدامة في برامجنا التعليمية وفي بحوثنا العلمية، وفي ممارساتنا على صعيد الحرم الجامعي، ولم توضع حتى الآن أي خطط لإدماج مفاهيم التنمية المستدامة في المناهج الجامعية.
لكن لا بدَّ من الإشارة هنا إلى ظهور بعض جامعاتنا الوطنية ولأول مرة في جداول تصنيف التأثير العالمي للجامعات (ومنها جامعتي دمشق والمنارة)، وهي جداول تصدر سنوياً عن مؤسسة تايمز للتعليم العالي وتقوم بتصنيف الجامعات استناداً إلى كيفية عملها من أجل تحقيق الأهداف العالمية للتنمية المستدامة. ويمكن أن يعدُّ ذلك خطوة بالاتجاه الصحيح، وهو يعبر عن وعيٍ بالتحديات العالمية المشتركة التي تواجهنا جميعاً والمتمثلة في تغير المناخ، والفقر المدقع، والعدالة الاجتماعية، وغيرها من التحديات.
لم بعد الالتزام بالأهداف العالمية للتنمية المستدامة خياراً نأخذ به أو لا نأخذ، بل أصبح ضرورة ملحة ومبدأً لا بدَّ لكل الجامعات في العالم أن تلتزم به. كما أصبح وجود عنصر الاستدامة في المساقات التعليمية كافة مطلباً وشرطاً أساسياً لا غنى عنه. لذا فإنَّ إعادة النظر في الخطط والمناهج أصبحت من الأولويات، وعلى مجلس التعليم العالي أن يضع استراتيجية وطنية لإدراج مفاهيم التنمية المستدامة في البرامج التعليمية والبحثية للجامعات، وكذلك في ممارساتها على صعيد الحرم الجامعي وخارجه.
وبالنسبة للوظائف الخضراء، وعلى الرغم من التحديات التي تواجه سورية في مرحلة بعد الحرب، إلا أن هناك إمكانية كبيرة لنمو سوق العمل في مجال الوظائف والمهارات الخضراء. فقد تسببت الحرب التي شنت على سورية بأضرار بيئية كبيرة، ما يتطلب جهوداً كبيرة لإعادة تأهيل البنى التحتية وترميم الأراضي الزراعية وغيرها. هذا بدوره سيخلق حاجة إلى خبراء في مجالات مثل إدارة النفايات وإعادة التدوير، وإعادة تأهيل الأراضي، وإدارة المياه، والطاقة المتجددة، والأبنية الخضراء. ولا بد لجامعاتنا أن تضطلع بدور ريادي في عملية التأهيل والتدريب في هذه المجالات، وكذلك في تطوير المهارات التقنية والناعمة اللازمة للعمل في القطاعات الخضراء.
ومما لا شك فيه أن هناك جيلاً جديداً من الشباب السوري يهتم بالابتكار والريادة، ويرغب في المساهمة في بناء مستقبل مستدام لبلدنا الغالي. ويمكن أن تساهم المشاريع الخضراء في خلق فرص عمل للشباب وتنمية الاقتصاد المحلي.