الاستعارة الثقافية
| د. علي القيّم
تتعرض الثقافة العربية الإسلامية، منذ سنوات عديدة إلى هجمات كبيرة مدروسة، تقوم من خلالها وسائل الإعلام الغربية، ومجموعة من الأقلام المسخرة لخدمة الصهيونية، بالتشكيك في قدرة الإنسان العربي والثقافة العربية، وتحاول أن تربط حالة التخلف والضعف والتردّي التي يمر بها الوطن العربي في الوقت الراهن بضعف قدرات وإمكانات وملكات الإنسان العربي… ويرى هؤلاء «الكتّاب» أن التواكل والإيمان الأعمى بالقدر من أسباب هذا التخلّف، وأن كل ما حققه العرب في الماضي من إنجازات علمية وفلسفية وفكرية، يعود إلى عناصر غير عربية وهم بذلك يحاولون بشتى السبل التقليل من شأن الثقافة العربية في الماضي، ويدقّون الأسافين في نعشها في الحاضر والمستقبل.
الذي يحز في النفس أن ثمة ميلاً واضحاً لدى الكثير من المثقفين والمفكرين و«الأكاديميين» في الوطن العربي إلى تقبّل هذه النظرة والأخذ بالآراء والأفكار التي تقول: «إن التقدم الثقافي العربي، لا يمكن أن يكون بغير الأخذ من ثقافة الغرب والتأثر بالحركات والتيارات الفكرية الجديدة ونقلها أو محاكاتها من دون تمحيص، ودراستها دراسة نقدية عميقة ومن منطلق الثقافة العربية ذاتها» ولهؤلاء نقول: إنهم ينسون في ذلك أن الإبداع الغربي إنما هو وليد أوضاع وظروف وتراث وتقاليد مختلفة عن تلك التي تسود في الوطن العربي، وقد ساعد في ذلك الانبهار بالثقافة الغربية التفوق الغربي الملحوظ والكبير في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، والاعتقاد بأن هذا التفوق يرتبط بالضرورة بالسيطرة الثقافية والتفوق الإبداعي، ونسوا بذلك قدرة الشعب العربي والتراث العربي وإمكانية النمو الذاتي، من دون إغفال ما يحدث في الثقافات الأخرى والتفاعل مع تلك الثقافات والاستعارة منها، ومبدأ «الاستعارات الثقافية» مبدأ معروف وقائم ومشروع في كل عمليات الاحتكاك الثقافي، ولكن المهم عنصر الاختيار والانتقاء، فتطور أو تطوير الثقافة العربية لن يتحقق من خلال الانكفاء على التاريخ وعلى التراث وحدهما، أو عن طريق الانغلاق على الذات والرجوع إلى المنابع الأصلية الأولى، وإغفال كل الروافد الخارجية التي يمكن توجيهها بحيث تصب في الثقافة العربية، كما أن الأصالة لا تعني الانطواء على الذات أو على الماضي وقطع العلاقات بالآخرين، ولنا في تجارب بعض شعوب آسيا «الصين- اليابان- كوريا الجنوبية- ماليزيا» أمثلة جيدة يمكن الاستفادة منها، حيث تمكنت هذه الشعوب من الوقوف على المستوى الثقافي الغربي نفسه مع الاعتزاز بثقافاتهم الخاصة، واحترامها والعمل على إضفاء الصبغة العالمية عليها، وذلك عن طريق إجبار الآخرين على إدراك واحترام خصوصية تلك الثقافات إزاء الثقافات الغربية.
عندما نقول هذا، ندرك جيداً أن الثقافة، في أي مجتمع لا تعيش في فراغ، وإنما هي ترتبط دائماً بكل النظم والأنساق الاجتماعية السائدة، في ذلك المجتمع، وهي لا توجد أيضاً في عزلة تامة عن غيرها من الثقافات، وإنما هي تقيم علاقات وصلات تتفاوت في القوة والضعف مع ثقافات المجتمعات والشعوب الأخرى المجاورة، وتأخذ من هذه الثقافات وتعطيها بقدر ما يحتاج إليه كل منها، وهذا الاحتكاك بين الثقافات وما يترتب عليه من «استعارات» متبادلة هو مصدر غنى وثراء لكل ثقافة منها على حدة، وعامل أساسي في تعميقها وتوسيع أفقها ما دامت هذه الاحتكاكات تتم بطريقة طبيعية ولا تخفي وراءها أهدافاً مغرضة أصبحت معروفة غاياتها وآفاقها، لأنها ترمي إلى تقويض دعائم تلك الثقافة والقضاء عليها بأن تفرض عليها أنماطاً معينة من التفكير أو وسيلة معينة من وسائل التعبير، وعلماء الأنثروبولوجيا بالذات يغرقون في هذا الصدد بين ما يسمّونه عمليات (التثاقف) العدواني، والتثاقف الطبيعي السليم القائم على التفاهم والصداقة والاحترام المتبادل بين الشعوب.