المارد الإفريقي.. بين الاحتقار الغربي والاحترام الروسي
| عبد المؤمن الحسن
قبل أيام، وفي زحمة الأخبارِ المتلاحقة، مر مرورَ الكرام، خبرُ إعلان وزارة الدفاع الأميركية أن الجيشَ الأميركي بعد أن أنجز المهام الموكلة إليه، سحبَ بالكامل القواتِ والأصولَ الأميركية من آخر قاعدة له في النيجر وهي القاعدةِ الجوية 201 في أغاديز، بعد أكثر من عام من مطالبةِ السلطاتِ الجديدة في النيجر بهذا الانسحاب، وهكذا تطرد واشنطن من بلد آخر في هذا العالم الجديد.
في الثلثِ الأخير من القرن التاسعَ عشر، اجتاحت القوى الاستعمارية الأوروبية القارةَ السمراء باعتبارها وفقَ زعمِهم «أرضاً بلا مالك»، وعقدوا مؤتمرَ برلين 1884 لوضع خريطةٍ لتقاسم سرقةِ خيراتِ القارة الإفريقية، وتوازعوها بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا، وكانت لفرنسا حصة الأسد جغرافياً واقتصادياً حيث احتلت أجزاءً واسعةً من إفريقيا، وأسست إمبراطوريةً استعمارية في غربها، عملت على توطيدِ بقائها فيها.
في سنة 1945 ومع انتهاء الحربِ العالمية الثانية بدأت أغلبُ الدولِ المُستَعمَرة بالمطالبةِ باستقلالها ما دفعَ الفرنسيين المُستعمِرين لإيجاد حلولٍ بديلة تضمن لهم ابتلاعَ الثرواتِ والموارد، فأصدرت فرنسا رسمياً قانوناً يقضي بإنشاء نظام مصرفي خاص تحت مسمى «منطقة الفرنك» في مستعمراتِها الإفريقية، وأصدرت عملةً خاصةً لدول هذه المنطقة سمتها «الفرنك الإفريقي» وربطتها بالفرنكِ الفرنسي وبالمصرف المركزي الفرنسي بشكلٍ مباشر، وظل الوضع كذلك رغم نيلِ بعضِ هذه الدول أو معظمها استقلالها السياسي، وذلك من خلالِ توقيع اتفاقيات كان ظاهرُها تعاوناً اقتصادياً وحقيقتُها تبعيةً اقتصادية واستمراراً للاستغلال والاحتلال الفرنسي عن بعد.
في الوقتِ ذاتِه برزت أهمية القارة الإفريقية في التخطيطِ الإستراتيجي والسياسي للولايات المتحدة الأميركية بعد سطوتِها على قيادة النظام الدولي عقِبَ مساعدتها أوروبا على هزيمةِ ألمانيا التي كان يقودها أدولف هتلر في نهاية الحرب العالمية الثانية، وإعادة إعمار ما خلفته الحرب، واستطاعت إحراز تقدمٍ مهم في عملية استبدالِ نفوذِها بالنفوذ الأوروبي فاهتمت بالقارةِ السمراء التي تُؤمّنُ الاحتياجاتِ الأميركية المتصاعدة للطاقة، والغنيةِ بمخزون هائل من النفط والغاز والمعادن المهمة التي تدخلُ في الصناعات الإستراتيجية، فضلاً عن وقوعِها على المعابر والموانئ الإستراتيجيةِ في المحيطين الهندي والأطلسي والبحرين الأحمر والمتوسط، ويكفي أن نذكرَ «قناة السويس» و«مضيقَ باب المندب» و«مضيقَ جبل طارق» و«رأسَ الرجاء الصالح» وما يعبرُها من مكوناتِ التجارة العالمية، لنعرف مدى أهمية ما تشرف عليه دول القارة السمراء، لذلك بدأت واشنطن رويداً رويداً بكنسِ النفوذِ الفرنسي من القارة، بالمعاهداتِ الاقتصادية والأمنية، ثم دخلت بشكل مباشرٍ إلى القارة السمراء عام 2008 من خلال قوتِها العسكريةِ المُخصصة لإفريقية «أفريكوم»، وتوضحت أهمية إفريقية ومدى ضرورتِها لمستقبلِ المخططات الأميركية عبر زياراتِ الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما التاريخية لها في الأعوام 2009، و2013، و2015، وبقي هذا التدخلُ غيرَ ظاهر للعيان ويحملُ نوعاً من التنافسِ الخفيّ بين فرنسا وأميركا حتى بدأت روسيا عمليتها العسكريةَ الخاصةَ لحماية مواطنيها في إقليم الدونباس عام 2022، حيث استفادت واشنطن كثيراً من انغماس أوروبا فيها بشكلٍ كبير وتحملِها الجزءَ الأكبر من فاتورة أوكرانيا في الحرب، وحاولت أن تسحبَ البساط من تحت فرنسا، ولكن بمفاجأة للدولتين شهدت الدولُ الإفريقية مجدداً عدةَ انقلاباتٍ عسكريةٍ متتالية في مالي وبوركينا فاسو وأخيراً النيجر، وهي من أهم معاقل النفوذ الفرنسي في الغرب الإفريقي، غيرت وجه هذه الدول وتوجهاتِها وأدخلتها مرحلة جديدة.
كانت هذه الانقلاباتُ ردةَ فعلٍ واضحةً من شعب ملَّ الاستغلالَ الرخيص لمُقدّراته، ومن استنزافِ ثرواته الطبيعية لتطوير الدول الغربية وإنارة مدنِها وترفيهِ مواطنيها في باريس وواشنطن، بينما يقبعُ الأفارقة في فقرهم المدقع وظروفهم المعيشيةِ المزرية مفتقدينَ لبنية تحتية أو خدماتٍ أو حتى مقومات تطور، إضافة لرزوحهم تحتَ وطأة الاحتقار والتعاملِ العنصري وابتلاعهم مخلفاتِ وملوثاتِ ونفايات صناعات الاستخراج الغربية في بلادهم وتحملِ تبعاتها المرعبة على البيئة الإفريقية والمواطنين الأفارقة.
ورغم هذهِ الانقلابات التي شكلت خطوةً باتجاهِ سيطرة هذه الدول على سيادتِها ومقدراتها، إلا أن دولَ القارةِ السمراء كانت غارقة حتى أذنيها بالمشاكلِ والمعوقات التي خلفتها سياسة الغرب التي لم تعمد إلى تطوير أي بلد بما يضمن له المسير وحيداً دون الاعتمادِ على المحتلِّ الفرنسي أو المبتزِّ الأميركي، ولم تكن المشكلةُ الاقتصاديةُ كما يتصور البعض المشكلةَ الحقيقيةَ لدى الدول الإفريقية رغم أنها كانت تُرخي بظلالها على القارة المستنزفة، فنحنُ أمام قارة كاملة تتمتعُ بغنى واضحٍ وهائلٍ بمختلف أنواع الثروات الطبيعيةِ والبشرية والجغرافية، لدرجة أنه لا يمكننا أن نتصورَ قارة أغنى منها بكل ما تعنيه الكلمة، بل كانت مأساتُها الحقيقية هي المشكلةُ التقنية التي تتعلقُ بالقدرات والمعارف، وبالإمكانات المتاحةِ لدى دول هذه القارةِ العظيمة للسير والتطور وبناء المستقبل، فمع كل هذا الغنى عانت فقراً قاتلاً في الإمكانات الموجودة والمعارفِ التي تتيح لهذه القارة ودولِها استثمارَ كل ثرواتها بالشكل الأمثل!
وما بينَ تراجعِ الاستعمارِ الفرنسي وتغلغلِ الاستعمارِ الأميركي بوجهه الجديد، وصحوةِ الشعوب الإفريقية كان الدورُ الروسي حاضراً، أولاً عبرَ دعم حركاتِ التحرر في العهد السوفييتي، ثم مع عودةِ روسيا الاتحادية لإحياء الدور السوفييتي التاريخي بدعمِ حركات التحررِ الإفريقية الحديثةِ، وبدأت تظهرُ سماتُ تحالف روسي مع بعض الدول الإفريقية التي كانت تحاربُ حركات التمرد والإرهابين القاعدي والداعشي وخاصة في مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا التي ناشدت موسكو عام 2018 لمساعدتِها في قتالِ التنظيمين الإرهابيين، عندها انتشرت القواتُ الروسية بشكل تدريجي في بوركينا فاسو، ليبيا، جمهورية إفريقية الوسطى، مالي والنيجر. ووصل التنسيقُ الدفاعي إلى حد توقيعِ روسيا اتفاقاتِ تعاونٍ عسكري مع نحو 19 دولة إفريقية، منها أنغولا ونيجيريا والسودان ومالي وبوركينا فاسو وغينيا الاستوائية.
ولأن هذه الدول ما زالت تعاني المشاكلِ التي زرعها الاستعمارُ الغربي بكلّ أشكالهِ على مدى مئاتِ السنين، كما أن تجاربَها السياسية لم تنضُج باعتبار أنها ما زالت تُدار وفق توزعِ القبائل التاريخي حتى ضمنَ الدول واضحة المعالم والحدود، سعت روسيا أيضاً إلى مساعدتِها في الوصول إلى حالٍ من الاستقرار السياسي البسيط مبدئياً وبناءِ منظوماتٍ أمنية تحمي هذه البلدان من الانقلابات والتمرداتِ ومن التنظيمات الإرهابية التي ظهرت في أكثر من زمان ومكان وبرعايةٍ ودعم غربي أيضاً.
ثم اتجهت روسيا نحو لبِّ المشكلةِ وجوهرِها، فبعد تأمينِ الحرية والعدالة والأمنِ لهذه الدول، ذهبت باتجاهِ التقنيات والبنيةِ التحتية والرؤى المستقبلية لحلِّ مشاكل التنميةِ في القارة الإفريقية وبدأت بعقدِ منتدياتٍ للتعاون الروسي الإفريقي كان أولها عام 2019 في سوتشي بحضور قادة وزعماء 43 بلداً إفريقياً، ثم جاءت القمة الثانية في سان بطرسبورغ 2023 والتي شاركت فيها 49 دولة إفريقية من أصل 54.
بعد ذلك اشتغلت موسكو على تعزيزِ هذه العلاقات من خلالِ وضع اللبناتِ الأساسية لأسسٍ مؤسسيةٍ واقتصادية متينة، وبدأت بقطاعِ الطاقة، لسدّ النقص لديها في معادن مثل المنغنيز والبوكسيت والكروم، المهمةِ بالنسبة للصناعة، كما سعت إلى بيعِ التكنولوجيا النوويةِ التي حرَّمها الغرب على إفريقية لعددٍ من بلدانها مثل زامبيا ورواندا وإثيوبيا ومصر ونيجيريا، وتجلت قمةُ التعاونِ ببناء موسكو محطاتٍ للطاقة النووية أهمها محطةُ الضبعة النووية في مصر.
تبعَ ذلك توقيعُ اتفاقيةٍ لإنشاء آليةٍ مالية لتحفيز وتسهيلِ العلاقاتِ التجارية بين المُصدّرينَ الروس والشركاءِ الأفارقة، لتطويرِ التعاون مع دول إفريقية من خلال تنظيمِ آلياتِ الإقراض لمشاريعِ التجارة الخارجية المشتركة.
لم تنحصر العلاقةُ الروسيةُ الإفريقية في الاتفاقياتِ الآنية لضمانِ استقرارها وأمنها وحمايتها من الإرهاب والانقلاباتِ المُمولة من الغرب كما أسلفنا، بل تُرجمت عبرَ دعمٍ روسي واضحٍ في المنظماتِ الدولية وسعي روسي صادق ودؤوب ومبني على الاحترام والتقدير، لتمتلكَ القارةُ السمراء مقعداً دائماً في مجلس الأمن ودوراً واضحاً في العالم الجديد متعددِ الأقطاب كما تستحق، إضافة إلى تسهيل انضمامِ العديد من دول القارة إلى منظماتٍ دوليةٍ أهمها بريكس، كما تمخضت تلك المؤتمراتُ عن مبادراتٍ روسيةٍ عديدة لإمداد الدول الإفريقية باحتياجاتِها من القمح بشكل مجاني، إضافة لمبادرةِ روسيا بشطبِ ديونٍ بقيمةِ 20 مليار دولار كانت مُستحَقة لها على الدول الإفريقية، في إشارة واضحة لنيتها استمرارَ الحضور والدعمِ للقارة الواعدة على مبدأ النديةِ والاحترام لا السرقةِ والاحتلال، في مشهد يوحي بأن الماردَ الإفريقي بدأ بالاستيقاظِ بعد سنوات طويلة من السُّباتِ والاستسلام، لينفض عنه غبار الذل والاحتقار ولينتقل من مرحلة التبعيةِ والعبوديةِ إلى مرحلة الاحترام المتبادلِ والنديةِ والتقديرِ الذي يليق بماردٍ يمتلكُ كلّ هذه الإمكانات المهدورة.
صحفي سوري