قضايا وآراء

مبادلة الرد الإيراني بوقف إطلاق النار ومبادلة حماس بإعادة الإعمار.. لاتستهينوا بعدوكم!

| فراس عزيز ديب

مضى أسبوع جديد لم نَشعر معه وكأنَّ الزمنَ قد تبدل في هذا الشرقِ البائس، إذ لم يتبدَّل فيهِ إلا عدَّاد الضحايا وأرقام المجازر المفتوحة في قِطاعِ تصفيةِ الحسابات التي يدفع ثمنها المواطن الفلسطيني، كان آخرها تلكَ المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلية بقصفٍ استهدفَ نازحين خلال صلاة الفجر داخلَ مدرسةِ «التابعين» بمدينةِ غزة، وراح ضحيتها حسب الحصيلة الأولية، أكثر من مئةِ شهيدٍ، يُضاف إلى هؤلاءِ الضحايا الكثيرُ من الإداناتِ المُكرَّرَة حدَّ الملل أو تلكَ التي تتوعَّد الاحتلال بالهزيمةِ النكراء! لكن أقبَحها على الإطلاق هي تلكَ التحليلات التي تتحدث عن وجودِ رابطٍ بين زيادةِ الهمجية الصهيونية في الأسابيع الأخيرة، وقربَ التوصلِ إلى حلٍّ نهائي يُفضي إلى وقفٍ لإطلاقِ النار ودخول اتفاق تبادل الأسرى حيز التنفيذ، وهي الورقة ذاتها التي قدمها الجانب الأميركي قبلَ أشهرٍ وانقلبَ عليها رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعدَ أن وافقت عليها حماس، هذا الترويج اليوم لاقتراب الحل وإن كان بتعديلاتٍ تبدو معها المقاومة الفلسطينية مضطرة للقبول بها مثل عبارة «إطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين الأكثر أهمية»! يبدو وكأنه مرتبط بروايتين أساسيتين:

الرواية الأولى، تتحدَّث عن وساطةٍ تقودها بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية بين الكيان الصهيوني وإيران، محور هذهِ الوساطة يتلخّص بمبادلةِ الرد الإيراني «المنتظَر» على قيامِ إسرائيل بانتهاكِ سيادتها بشكلٍ مباشر وتنفيذَ عمليةِ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركةِ حماس إسماعيل هنية، بتسريعِ موافقة إسرائيل على وقفٍ لإطلاق النار في القطاع والموافقة على تنفيذ اتفاق لتبادل الأسرى والسماح بدخول المساعدات في الحد الأعلى!

في الحقيقة يبدو الترويج لهذهِ الرواية يلقى صدىً أكبر في وسائل الإعلام الناطقة بالعربية بمعزلٍ عن موقف تلك الوسيلة من إيران، فهناكَ من يرى أن الترويج لهذا التوسل الأميركي والأوروبي يُظهر مدى الرعب الذي يمثلهُ انتظار الرد الإيراني، وحالةَ توازن الرعب التي خلقتها إيران مع العدو الإسرائيلي، كلام بدا معهُ من يتبناه وكأنه يحاول التبرير مسبقاً لأي موافقة إيرانية مُحتملة على الوساطة، عبرَ اللعبِ على أدق التفاصيل، كمثال بأن العملية التي استهدفت هنية كانت عملية أمنية بحتة لم تؤد حتى لجرحِ أي مواطنٍ إيراني، كما أن إسرائيل لم تتبن حتى الآن الضلوع بهذه العملية! لتخرج معها إيران في حال تحقق هذه الصفقة بمظهرِ المنتصر لغزة والذي «وضع على الجرح ملحاً» وابتلع الرد بهدف ضمان إنهاء معاناة الفلسطينيين.

على الجانب الآخر، هناكَ من تعاطى مع هذهِ الصفقة بطريقةٍ أرادَ منها إحراج الجانب الإيراني، كالاستشهاد ببعض التصريحات الإيرانية التي تتحدث عن «رد لا يكسر التوازن الأمني في المنطقة» بعدمَا كان الحديث عن ردودٍ تقتلع الكيان، بعض الصحف الغربية ذهبت أبعدَ من ذلك بالحديث عن خلافٍ كبير بين الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، والمرشد علي خامنئي حول آلية الرد من عدمهِ، لكون القيادة الإصلاحية الجديدة ترى في الرد إدخالاً لإيران في متاهاتِ حربٍ لا تريدها، ولا يخفي هؤلاء ترويجهم لفكرةِ أن إيران تحاول البحث عن ذريعةٍ للهروب من الرد بعدَ أن تعذرَت فيما يبدو إمكانيةَ التوصل إلى اتفاقٍ للردٍّ ينزل الجميع عن الشجرة، حتى الكلام المنسوب للبعثة الإيرانية في الأمم المتحدة عن نفي الربط بين الرد وبين مفاوضات وقف إطلاق النار، هو صيغة مكررة منسوبة للبعثة الإيرانية في حالات كهذه، النفي من عدمه قد يكون عبرَ مسؤول واضح وبكلام صريح.

بواقعيةٍ تامة، يبدو كلام كليهما يعلوه الغلو، إن كان مع أو ضد الموقف الإيراني، لأن كلاً منهما حاول التسويغ لرؤيته بادعاء الحيادية وتجاهلَ أمراً جوهرياً لا يمكن القفز عنه سواء أحببناه أم لا، وهو موقف المجرم بنيامين نتنياهو من صفقة أو اتفاق كهذا، والمقاربة هنا واضحة: إذا كان ثمن اغتيال إسماعيل هنية، هو اضطرار الكيان لتوقيع وقف إطلاق النار بشروطٍ لا يريدها لضمان عدم الرد الإيراني، فلماذا أمرَ بنيامين نتنياهو بتنفيذ عملية الاغتيال؟ تحديداً أن هنية وكل قيادات الحركة في الخارج لا يمثلون أي خطر على الكيان، بل على العكس كانوا عوناً سياسياً لهُ لضمان إبرام الصفقة!

بالسياق ذاته، فإن البيان المشترك للدول المنخرِطة في الوساطة بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية والذي حمَّلَ أي ردٍّ إيراني مسؤوليةَ تقويض جهود التوصل إلى اتفاق لوقف العدوان على غزة، هو تبرؤ من أي فكرة وساطة بين الطرفين بل ودعوة للتعاطي مع العدوان الإسرائيلي كأمر واقع كي لا ينزعج نتنياهو وينقلب على الاتفاقيــات، لماذا يتجاهل الإعــلام الناطــق بالعربيــة الانهزامية القميئة ببيانــات كهذه، قبل تحميل إيران أي مسؤولية؟!

الرواية الثانية، وهي تلك التي تتحدث عن صفقةٍ تضمن إلى حدٍّ بعيد وقفاً لإطلاق النار توافق عليهِ إسرائيل، يتبعه دخولَ قواتٍ عربية مشتركة إلى قطاع غزة لتستلمَ المهام الأمنية في القطاع بما فيها المعابر الحدودية وتوزيع المساعدات، حتى هذه اللحظة لم تتضح بعد الخطوط العريضة لهذه الفكرة القديمة- الجديدة، وإن كان هناك الكثير من الدول العربية قد نقلوا لوسطاءَ أميركيين رفضهم المشاركة من دونَ الإفصاح عن أسباب الرفض، كما أن حدود الضغط الأميركي على هذهِ الدول للقبول بالخطة تبدو غير واضحة لكنها عملياً تبدو من حيث التطلعات المستقبلية للقطاع أمراً جدياً لا يمكن القفز عنه، يستند إلى مفهوم «القوة الناعمة» ضد المقاومة الفلسطينية بعدَ أن بنَت المقاتلات الإسرائيلية عبرَ تدميرِ البشر والحجر في القطاع اللبنة الأولى لهذا المشروع فكيف ذلك؟

منذُ عدةِ أسابيع جهدَ الإعلام الغربي للاستثمار بصورة قطاع غزة قبل السابع من تشرين الأول وبعد السابع منه، إن كانَ لجهة البنى التحتية والأبراج الشاهقة وكيفَ سويت هذهِ الأحياء بالأرض، أحد المواقع الفرنسية نشرَ صورة لعائلة فلسطينية مكوَّنة من أبٍ وأم وثلاثة أطفال يستقلونَ سيارة حديثة في القطاع أُخذت لهم قبلَ أيام من طوفان الأقصى وعنونت تحتها: «هذه العائلة بالكامل قتلتها إسرائيل لكن هكذا كان حالهم قبل مغامرة حماس!»، فمحاولة اللعب بذكاء على الصورة العامة قبل وبعد، تتجه نحو فتح نقاشٍ جدّي حول مدى التأييد الشعبي للمقاومة، هناك من يعتبِر أن في القطاع أعداداً كبيرة ترفض تحكم حماس بالقرارات المصيرية لكنهم يخافون بطشها، هذه التهيئة التي تلعب عليها الدعاية الغربية تروج لأن أي اتفاق لوقف إطلاق النار في القطاع سيتم بموافقة حماس، لكن كل ما سيتعلق بمستقبل القطاع من إعادةِ إعمار أو إعادة بناء السلطة السياسية سيكون من دون حماس إن لم تكتفِ الحركة بالجناح السياسي الذي يعترف باتفاقيات أوسلو، عدا عن ذلك فإن كل مشاريع البناء ستكون متوقفة بما فيها مشاريع البنى التحتية، وهو ما يبدو بعيداً عن قبولِ حماس تحديداً بعد انتخاب يحيى السنوار كرئيسٍ للمكتب السياسي للحركة خلفاً لإسماعيل هنية، وهو المطلوب رقم واحد للكيان وإعلان الجناح العسكري مبايعته، ليصبح السؤال هنا: أي الروايتين أقرب للتحقق؟

بصراحةٍ تامة، تبدو كلا الروايتين مكمِّلة للأخرى كجزء من المعركة الإعلامية، فسنصل إلى المرحلة التي سنجد فيها التصريحات مكررة، الردود مكررة، والسيناريو مكرر، لكن هذا لا يبدو مهماً، المهم عندما سنكتشف أن الدعاية الإعلامية جعلتنا نتلهى بصفقةِ محتملة بين إيران والولايات المتحدة، من معها ومن ضدها، لكن كل هذا ما هو إلا جزء من السعي للتعمية على ما هو أهم في مستقبل القطاع ومستقبل فلسطين المحتلة، قلنا هنا في أكثر من مرة: إن الكيان لديهِ ضوء أخضر لتصفية المقاومة في فلسطين المحتلة ولن يتوقف حتى إنجاز المهمة، لكن فيما يبدو العدو قادر أن يبتدع أساليب للتصفية تختلف حسب المكان، قد ينتهك السيادة ليقوم بالتصفية وقد يغزو، لكن ببساطة فإن كل ما سيفعله هنا مجردَ حربٍ ناعمة تقوم بتعويم الصورة قبل السابع من تشرين الأول وبعدها، وما زال من يصدِّق بأن هناك منقذاً سيأتي لينقذ الفلسطينيين من هذهِ المذبحة المفتوحة.

كاتب سوري مقيم في فرنسا

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن